آراء

دور المجتمع في علاجِ قضاياه

بقلم : د. صالح الفهدي

Advertisement

تساءلتُ في نفسي : ما الذي يمنعُ المجتمع أَن يُعالجَ القضايا التي ترقى إلى ظواهرَ فيه ، أو تلك الطارئةُ على وسْطِهِ؟! لَمْ أجدْ مانعاً لذلك حين تكون المبادرة حاضرة من لدن فردٍ أو جماعةٍ منه ، إذ لا يمكن أن يتحجَّج بالمكانِ فالمسجدُ والجامعُ والمجلسُ كلُّها حاضرة ، وقادرة على استيعاب اجتماعاته.

إنني أجدُ أنَّ مبادرات المجتمع لعلاج ظواهرَ فيه أمراً أساسياً ، فهي تنمُّ عن سعةِ إدراك المجتمع بمسؤوليته أفراداً وجماعات ، وهي تشيرُ إلى اضطلاعه بما يهم المصلحة الوطنية العامَّة من خلال معالجاته لقضاياه.

Advertisement

فلنتصوَّر أن مجتمعَ قريةٍ من القرى أو ولايةٍ من الولايات أو محافظةٍ من المحافظات بحضورٍ من الرُّشداءِ والشيوخ والولاة والمحافظين فيها قد اجتمعوا على مناقشةِ قضيَّة ارتفاعِ معدَّلات الطلاق وآثارها على المجتمع ، أو لمناقشةِ الإشكاليات المترتبة على الزواجِ من مهور وتبعات ، وتأثيراتها على المجتمع ، ثم يخرجُ ذلك الاجتماع بقراراتٍ أو توصياتٍ لأفرادِ المجتمع المحدودِ ، سيكون لهذه المبادرة صداها وأثرها على المجتمع نفسه ، وعلى سائر المناطقِ والولايات التي ستمضي على نهج المجتمع المبادر في ما يصدرُ من قراراتٍ ، وقضايا.

ما الذي ينتظرهُ المجتمع لكي يُعالج قضايا قد أصبحتَ ظواهرَ دخيلةٍ فيه ، أو سلوكياتٍ غير سويَّةٍ قد تفشَّت ، أو أخلاقيات غير حميدةٍ قد تكاثرت؟! هل ينتظرُ أن تستفحلَ ، أم يتركَ الأمر لما تفعلهُ المؤسسات الحكومية ، أم ينتظر الوعَّاظَ أو المرشدين ، أو المسؤولين؟! إنَّ المجتمعَ بهذه الرؤية إنَّما يعبَّرُ عن عدم اكتراثهِ لما يهدِّد كيانهُ من أخطار ، وما يشوب هُويتهُ من خلل ، فيقابل ذلك بالتراخي والكسل ، انتظاراً للمعالجةِ التي قد تأتي متأخرةً أو لا تأتي!.

أمَّا إن تحرَّك المجتمع فبدأ يناقشُ قضاياه في مجتمعهِ صغيراً كانَ ذلك المجتمع أم كبيراً فإنَّه سيشرك جميع أفراده في المسؤولية لعلاج المشكلة ، انطلاقاً من تصوِّره للأبعاد المختلفة لكل مشكلة ، وانتهاءً إلى ما يجب على الجميع اتخاذه من إجراءات تعملُ على ردع كل ظاهرةٍ تتهدَّدُ التماسك الاجتماعي ، أو تتقصَّدُ إفسادَ الأخلاق ، أو ترمي إلى تفكِّكُ عُرى المجتمع.

لقد كان دور (السبلة العُمانية) رائداً في حلِّ الإشكاليات الاجتماعية؛ حيثُ يجتمع المجتمع القروي فيها ليناقشوا كل ما يتعلَّقُ بالقرية من شؤونٍ وقضايا ، أذكرُ هُنا حين كنَّا صغاراً  أن خلافاً قد وقع بين مدير المدرسة التي كُنا ندرسُ فيها وبين مجموعة من الطلبةِ وكنَّا في أعمارِ الطفولةِ حيث عقد مجتمع القرية اجتماعاً طُلبَ فيه المدير وكان من جنسية عربيةٍ ، يرافقهُ أحد المعلمين العُمانيين ، وطُرحت حيثيات القضية أمام مجتمع القرية ، واستُمع فيها للطلبة وللمدير فحُلِّت الإشكالية بمجموعةٍ من التوصيات للجانبين.

اليومَ ليس من مانع أمام المجتمع أن يناقشَ قضاياه على اتساعها ، فيدخلُ في هذه الاجتماعات ممثلون عن لجان التوفيق والمصالحة ، ومجالس الآباءِ والأُمهات ، ولجان الزكاة ، والجمعيات والفرق الخيرية ، والمختصين وغيرهم من ممثلي كيانات المجتمع ، ليُستمع إلى وجهات نظرهم في القضايا المطروحة على بساط التحاور والنقاش.

إن من الأسباب التي تُعزى لها المشكلات هي ما اعترى المجتمع من تغيُّرات سريعة مقابل ضعف الترابط بين فئات المجتمع ، وغياب رقابة المجتمع ، وعدم مبادرة المجتمع لحلِّ مشكلاته الاجتماعية ، ولو أنَّ المجتمع قد بسَطَ أمامه قضايا لها تأثيراتها على كيانه لاستطاع أن يحلَّ الكثير من القضايا الاجتماعية المزمنة ومن ذلك ما يتعلَّقُ بالزواج من مهور ومظاهر ومتطلبات ، وكيفية حل ارتفاع نسب الطلاق ، والشكاوي الكيدية ، والخلافات الاجتماعية ، والإشكالات التربوية ، فإِنْ بادَرَ المجتمع بإخلاصٍ وصدقٍ وعزمٍ فإنَّ آثار ذلك ستبينُ في جملةِ أُمور :

أولاً : ستقوي مبادرة المجتمع في لقاءاته لحمتهُ الاجتماعية ، التي هي بحاجةٍ إلى التعاضد والتآزر فـ “المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا” رواه البخاري ، وأذكرُ هُنا مبادرة أهل محافظة ظفار في جمعهم لنصف مليون ريال عُماني لفكِّ كربةٍ إثنان من أبناء المحافظة سُجنا بسبب تعسُّر وفائهما بدينٍ إثرِ تراكم الديون عليهما ، وهو ما يعزِّزُ التآزر والتلاحم بين أفراد المجتمع لحلِّ قضيَّةٍ من قضاياه.

ثانياً : يرسِّخ المجتمع الشعور بالمسؤولية في نفوس الجميع لمواجهة الإشكاليات التي يتعرَّضَ لها ذلك المجتمع ، وأنَّ عليه أن يواجهها بروحٍ من المسؤولية والواجب الوطني حتى يقضي على أسبابها.

ثالثاً : سيكون لهذه المبادرات الاجتماعية أثرها في القضاء على الظواهر المستفحلة ، والقضايا الطارئة التي إن تُركت ستعمُّ آثارها السلبية الجميع ، ولن يسلم منها أحد ، أما إن تصدَّى لها المجتمع فسيتم معالجتها بمختلف الوسائل.

ختاماً : فإِنِّني أُشدِّدُ على الأهمية الكامنة في دور المجتمع لمعالجة قضاياه وإشكالياته وذلك لا يتمُّ إلا من خلال المبادرة الاجتماعية للإجتماعِ واللقاء والنقاشِ سعياً للخروجِ بما يتوجَّب عمله إزاء ظاهرةٍ معينةٍ ، أو مشكلةٍ عارضةٍ ، ولسوف يجني المجتمع أَثر هذه المبادرة التي تؤشِّر على رُشد المجتمع ووعيه في وقوفه بروحٍ من المسؤولية أمام ما يتقصَّدُ إشاعة الخلل ، وإفشاء العِلل في مكوِّناته بغيةَ تفكيكه وانحلاله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى