آراء

سر العميل الداخلي

بقلم : د. صالح الفهدي

Advertisement

حين كُنا في دراساتنا العُليا بالمملكة المُتحدة ، طُلبَ منَّا أن نكتبَ بحثًا عن “العميل الداخلي Internal Customer”؛ فتفاجأنا نحن الطلبة العَرب من هذا المصطلح الذي نسمعهُ لأوَّل مرَّة؛ إذ إنَّ العميل الوحيد الذي نعرفه واحد هو “العميل الخارجي”، فمن أينَ جاءَ هذا “العميل الداخلي”؟!

عَلِمْنا وسطَ دهشتنا ونحن نبحثُ عن أصلِ المصطلحِ أن “العميل الداخلي” هو الموظف في المؤسسة ، وقد أُطلقَ عليه هذا الوصف لأن الرضا الذي يُفترضُ أن تعتني به أيَّة مؤسسة وجهة عملٍ لا يقتصرُ على عميلها الخارجي الذي تكسبُ منه مصادرها المالية عبر الاستفادةِ من خدماتها أو سلعها ، وإنَّما قبل ذلك عليها أن تعتني بموظفها “العميل الداخلي”، ولا يجب أن تولي اهتمامها فقط برضا العملاءِ الخارجيين ، وإنَّما قبل ذلك برضا العملاء الداخليين وهم موظَّفوها، الذين إن رضوا سيعملون جاهدين على إرضاءِ عملائهم الخارجيين ، وإن تذمروا فلن يرضوا من يتعاملُ مع مؤسساتهم.

Advertisement

أكادُ أجزمُ بأنَّ الأغلبية العُظمى – إن لم تكن نسبة تقاربُ كلَّ المؤسسات- لم تسمع قبل هذا المقال بمصطلح “العميل الداخلي” الذي يُقصَدُ به الموظف ، ولهذا فإنَّ نظرتها نحو الموظف قاصرة ، تتَّسم بعدم التقدير الكافي الذي يستحقَّه، في حينٍ أنَّها تركِّز دائمًا وأبدًا على بذل قصارى جهودها لـ”رضا العملاء” وهم من يتعاملون معها؛ بل إنَّها تقدِّم لهم الأعذار مهما أخطأوا في حقِّ موظفيها رافعةً شعار “الزبون دائمًا على حقَّ” وهذه عبارة إنجليزية صيغت عام 1909 من قبل هاري غوردن سلفريدج مؤسس متجر سبفريدج في لندن.

على أنَّ جوردون بيتون رجلُ الأعمال الذي اشتهر بتحويل “كونتيننتال إيرلاينز” من الأسوأ إلى الأولى في مجالها ، لا يعترف بعبارة “الزبون دائمًا على حق”؛ حيث قال فيه إنه يحرص على رضا الطرفين– الزبائن والموظفين- على حدٍّ سواء.

لقد أَهمل الكثير من المؤسسات الاهتمام بالموظف “العميل الداخلي” وهو عمودها الأساس في تقديم خدمةٍ ذات مستوى عالٍ وجودةٍ راقيةٍ للعملاء الخارجيين ، وأثقلتهُ من أحمال المسؤولية والواجبات ما لا يحتمل ، وشدَّدت عليه أن يقدِّمَ أفضل الخدمات ، وأن يُنجز أصعب الأعمال ، وأن يتحمَّل أقسى الصعوبات في سبيل نماءِ المؤسسة وزيادة أرباحها ، وحدَّدت له أهدافًا غير واقعية، ولكن كيف قابلت المؤسسات كل ما طلبته من موظفيها؟

أولًا: منحتهم رواتبَ ضعيفة ، لا تنصف جهودهم وطاقاتهم التي يبذلونها من أجل القيام بأعمالهم بأحسن وجهٍ ، وأمثلِ عطاء.

ثانيًا: لم تُراعِ بعضها حقوقهم الاجتماعية في قضاء الوقت الخارج عن الدوام مع أهاليهم ، أو قضاء إجازات مريحة فهي تطلبُ منهم أن يواصلوا العمل أينما كانوا وفي أيِّ وقت ، وبهذا فقد حرمتهم من حقوقهم الاجتماعية بل والشخصية!!

ثالثًا: تحاسبهم على الأخطاء والتقصير، ولا تكافأهم على الاجتهادِ والإنجاز!!

ذات مرَّةٍ، طلبَت مني إحدى الجهات إجراءَ بحثٍ معيَّنٍ، فتفرَّعتُ فيه لأبحث عن سبب الأُسلوب غير المهذَّبِ الذي اتَّسمت به سمعة موظفيها بصورة شائعة، فوجدتُ أنَّ أحد الأَسباب لذلك الأُسلوب غير اللائق مع النَّاس هو ضغوطاتهم الماديَّة بسبب ضعف رواتبهم، واستدانتهم من المؤسسة التي يعملون بها بعد استلامهم لرواتبهم بأيامٍ قليلة، فوضعتُ من بين توصيات البحث الذي رُفع لرئيس المؤسسة توصيةً بزيادة رواتب موظفي المؤسسة، وربطتُ ذلك بالضيقِ والتذمر الذي يطغى على تعاملهم مع الناس مما أثَّر على سمعةِ المؤسسة.

الموظف إذا شعر بأن مؤسسته تستغلَّهُ دون أن تقابل ذلك الاستغلال بالتقديرِ المادي والمعنوي، فإنَّ معدَّل الرضا الوظيفي سيهبط في نفسه، وسيشعر بالتذمُّر نحو المؤسسة التي يقدِّم لها أقصى ما يستطيع من جهد، وطاقة، وتقابله بتحقير الجهد، وتقليل الثواب. تطلبُ منه المؤسسة أن يكدَّ ويشقى ويبذل الجهود الجبارة في سبيل أن تحصلَ على عوائدَ مالية كبيرة، لكنَّها تتجاهل حقيقة أنَّ هذا الموظف “العميل الداخلي” هو مصدر هذه العوائد، ويجب أن يكون راضيًا نفسيًّا عن الجزاء الذي يتلقَّاه من ناحيةِ قدرِ راتبهِ، أو تقديره المعنوي.

إنَّ المؤسسات التي تتسبب في عدم التوازن الذي يحدث لموظفيها بين أعمالهم وحياتهم الاجتماعية ، وتدفعهم دفعًا إلى استنزاف طاقاتهم، وإنهاكهم بدنيًا وفكريًا ونفسيًا إنَّما تتسبب في احتراقهم وظيفيًا، وهو ما يعدُ رد فعلٍ نفسيٍّ وذهنيٍّ على ضغوط العمل المستمرة، وينتج عنه تدنِّي الحافز بالعمل مصاحبًا بالإِنهاك وفقدانِ الشَّغف بالعمل، وانحدار المعنويات.

يقول أحد الموظفين المُستنزَفِين من شركته: “تضغط علينا الشركة بأهدافٍ عالية، وتطالبنا ببذل جهود تحتاج إلى عدد مضاعف لعددنا من الموظفين للقيام بها لتوفِّر أموالها، ولكن المقابل المادي لا يساوي ربع ما نقوم به من جهود، لهذا نشعر أنا وزملائي الموظفين بأننا قد فقدنا الرغبة في العمل لاعتقدنا بأن الشركة تستغلنا أبشع استغلال من أجل تحقيق مصالحها دون النظر إلينا كبشر لنا التزاماتنا الأساسية في الحياة”.

خلاصة القول.. إنه على جهات العمل أن تكون عادلة ومنصفة في تعاملها مع موظفيها، فيما يتعلَّق بالحقوق والواجبات، وذلك بأن تنصف الحقوق ما يناط على الموظف من واجبات، وهذه أولى ما يجب النظر إليه من المعايير عند تقييم أداء الموظف؛ إذ لا يمكن لجهة عمل أن تتهم موظفا بالتقصير وقد حمَّلته واجبات أكبر من طاقته، ثم هي في المقابل لا تجازيه ماديًا إلا على ما يساوي الربع من مجهوداته!

إنها رسالة لكل مؤسسة: إنَّ من البديهيِّ جدًا إذا رفعت المؤسسة توقعتها من أداءِ وإنجاز موظفيها، فعليها في المقابل أن تنصفهم في مقدار رواتبهم الشهرية، والتقدير المعنوي وهما عاملان مهمَّان ليس للرضا الوظيفي فحسب بل وللولاء للمؤسسة، والشعور العميق بالانتماء إليها.

فارضوا “عملاءكم الداخليين” قبل أن تفكروا في إرضاء “عملائكم الخارجيين”، هذا إن إردتم أن تطوِّروا من مستوى أدائكم، وتحسِّنوا من جودة أعمالكم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى