ثقافة وفن

مسرحية ” إعيال الرَّزَة ” الصَّلالية كوميدية أثارت قضايا في مجتمعاتنا بثوبها العُماني القديم

كتب : علي باقر – مملكة البحرين

Advertisement

زيارتي إلى ولاية صلالة عروس محافظة ظفار مع أربعة من أصدقائي والاستمتاع بإعتدال مناخها الاستوائي ، وما تمتاز به محافظة صلالة من عيون وطبيعة خلابة تسحر الألباب في خريفها الموسمي كل عام ، آثرنا الاستمتاع بها سياحياً و ترفيهياً.

وألتقيت خلالها مع بعض الفنانين العُمانيين الصلاليين الذين تاق قلبي لرؤياهم وشغُفت نفسي بالاستماع إلى أحاديثهم الفنية و تحليلاتهم المسرحية.لايمكن أتناسى حفاوة الصديق العزيز الدكتور مرشد راقي خبير مديرية الثقافة في محافظة ظفار الذي شملنا بكرمه وبروعة أسلوبه في أحاديثه الفنية الأكاديمية التي أضافت لنا الكثير ، كما لا أتناسي أيضا كرم الأستاذ الفنَّان شامس نصيب مؤلف ومخرج المسرحية الاجتماعية الكوميدية “إعيال الرَّزة ” التي أنتجتها فرقة طاقة المسرحية العُمانية العام 2023 ، والتي دعانا إلى أحد عروضها على خشبة مسرح أوبار بالمديرية العامة للتراث والسياحة بولاية صلالة ، وكان ذلك في مساء يوم الخميس الموافق 17 أغسطس 2023م.

Advertisement

مسرحية أعيال الرزة 2

المسرحية اجتماعية كوميدية المواقف حملت هموم المواطن العُماني رغم أنها تناولت حقبة زمنية في سلطنةعُمان ، وقد طوَّعها المؤلف المخرج شامس نصيب لتسلط الضوء على قضية مهمة ومعاصرة لايعاني منها المجتمع العُماني فحسب وإنما تتعدى ذلك لتشمل قضايا الإنسان في الخليج والوطن العربي .

وإنَّ رؤيته الإخراجية أدخلتنا في بيت متواضع ديكوره يعكس البيئة العُمانية والخليجية شكلاُ يعيش فيه قاضٍ وأخته وابناها ، والمؤلف المخرج أراد أن يجمع هذا البيت بين التَّواضع في الزَّمن القديم الجميل وبين الوجاهة الذي تشكَّلت منه (الرَّزة) ، ومن خلال الصور المشهدية الممتمعة بفعلها على الخشبة وموافقها المحزنة المضحكة لأحداث هذه المسرحية الواقعية يتجلى أمامنا مفهوم الكلمة في اللهجة الدَّارجة والتي تعني (الهيبة) ، وقد اتكأ المؤلف والمخرج نصيب على خلخلة الحدث المسرحي في بنائه التأليفي و الإخراجي ، فكانت الشخصيات التي انبلجت منها أحداث المسرحية متناقضة مهنياً وكذلك سلوكياً مما جعلنا نكتشف أن عائلة الرزة أهل الحلِّ والرَّبط أدخلتنا في دوامة القضايا المعاصرة التي تكتنف المجتمعات الخليجية و أصبح يتأفف منها المواطنون إلا أن أسرة هذا البيت وإنْ ظهرت كنموذج شكلي بالرَّزة و الهيبة إلا أنه في أعماقها ودواخلها تبدو مفككة ، فالقاضي أعزب غير مستقر عاطفياً رغم أنه بلغ منه العُمر السِّتين ، برره المؤلف المخرج أنه لم يقدم على الزَّواج معترضاً على غلاء المهور التي تثقل كاهل الشباب ، ومع ذلك لايزال في طور البَّحث عن فتاة جميلة من خارج قريته بأقل التَّكاليف ، فهو لم يقنع بمن حوله من الفتيات اللواتي حبَّاهن الله جمالاً وسلوكاً وتهذيباً ، أما أخته الفنانة العُمانية تونس قصبوب فهي تحمل الوجاهة و الهيبة من شكلها و إدارتها للمنزل وتأثيرها على جميع أفراد الأسرة ، وهي من ترسم نمط حياة ابنيها ، ولكنَّها تمتهن الغِناء في الأعراس (طقاقة) ، وشغلها الشَّاغل أن تختار لأبنيها زوجتين تعينها في مهنتها.

مسرحية أعيال الرزة 3

وهنا يقع الابنان ضحية في زواج غير منسجم لم يُبْنَ على المحبّة مما طوَّع الابن الأكبر في البحث عن فتاة جميلة هو الذي يختارها من غير قريته لأنه لم ينجح هو وأخيه في الزَّواج فزوجة أخيه المصرية حسب لهجتها تستعبد أخاه وهو من يقوم بطهي وإعداد  الطعام وتنظيف المنزل ، أما زوجته هو فكانت تستعبده والتتسيد عليه ، بل تمارس عليه ضغوطاً إضافة على ذلك تضربه إذا عصى أوامرها ، مما جعله يتمرد على ذلك بالزَّواج من فتاة جميلة ومتزنة فاهمة من خارج بلده ، وقد أدت هذه الشخصية نجمة وطني مملكة البحرين الفنانة وفاء مكي بشكل عفوي وجميل .

وهنا أجد أن المؤلف المخرج شامس نصيب أدخلنا في إشكالية قد تكون تحريضية لها إسقاط معاصر على بنت القرية التي ولدت من رحم النَّسيج الاجتماعي المتوارث للعادات والتقاليد الأصيلة بأنها لاتفهم عن الحياة الزوجية ، فهي دائما ما تكون متسيدة ، ولاتعتني بجمالها كزوجة والزَّواج منها حتمية فاشلة ، وذلك لأنه لم يظهر لنا ضمن مشاهده نموذجاً آخراً لفتاة من القرية تختلف عن سلوك الزوجة.

لو قدر لنا في مشهد شاهدنا مثلاً زوجة من نفس القرية مطيعة وجميلة وخلوقة ، تقع ضحية ، ورماها القدر أن تكون زوجة لرجل يملؤه الشر أو سكير ومعنف وأنها ضحية في قضية مرفوعة للقاضي لأمكننا الحكم بأنه عرض نوعين من النِّساء ولم يأخذنا مشهد السامبو والشروفان وزوجهما إلى شكل تحريضي من وجهت نظري.

وأجد أن الفنانين مطران عوض و أشرف المشيخي (شوفان) رغم أجادتهما لدوريهما فقد لعبا دور شابين مسلوبا الإرادة وأصبح كمهرجين بمواقفهما الكوميدية ، أثارا ضحك الجمهور بأفيهاتهما في بداية المشاهد الأولى ، إلا أننا وجدنهما هما بذاتهما يعملان مع القاضي في حلِّ مشاكل الناس وسجن المتهمين الجناة.

مسرحية أعيال الرزة 4

وربما تعمَّد المؤلف المخرج شامس إلى خلق هذا التَّناقض في السِّلوك بين التَّهريج والرَّزانة ليدلل لنا أن ذلك البيت الصغير الذي يجمع تلك الأسرة هي بمثابة وطن ويجب أن يتمهن أفراده بالكفاءات في المناصب بعيداً عن النسب والمحسوبية بأشكالها.

المسرحية طرحت مشاكل كثيرة أهمها أن المؤسسة الإجنبية التي تشكَّلت أمامنا من قضية مرفوعة إلى القاضي باعتمادها على عمالة مواطن القرية الضعيف المنهك في حياته الاقتصادية بشكل معكوس بات المواطن يجني المهانة والسِّجن عند القاضي بسبب دّيْن قليل جداً لم يستطع تأديته لتلك المؤسسة الأجنبية التي باتت تجني أرباحاً كثيرة ، وهذا هو أسقاط على الشركات الأجنبية التي تمكَّنت وباتت تنافس المواطن في لقمة العيش بل لا ترحمه ويكون عرضة للسجن.

المسرحية سلطت الضوء على الفساد المستشري الذي ينخر في جسد الأوطان إذا ما تعمقنا في القضايا التي يفرغها الممثلون في المسرحية ، حيث نجد الفنانين مطران عوض والفنان أشرف المشيخي رفضا الرشوة من الشركة الأجنبية مقابل التَّغاضي عن أعمالهم غير القانونية ، وهذه الصورة نقية عكست المواطنة الحقّة ،  كما برهنَّ “الضرات” الزوجات الثلاث جيهان بلهجتها المصرية والسامبو بلهجته العُمانية ووفاء مكي بلهجتها البحرينية أن هنَّ وإن اختلفن كضرات في بيت واحد إلا أنهن يرفضن تقبل الرشوات أو أيَّ شكل من أشكال الفساد لأنهن يحببن زوجيهما وبلدهن.

مسرحية أعيال الرزة 5

ولكني أرى أننا نتلقى الصورة المشهدية بشكلها الواقعي ، فلو أدخل المؤلف المخرج مشهداً حركياً مرئياً صمتاً لإحدى الزوجات وهي متخفية وهي تستمع لحوارات عرض الرَّشوة على الموظفين مطران والشروفان لأصبح ذلك مبرراً لحوار الفنانة وفاء مكي التي جاءت لتوبيخهما وأنا كشفت عرض الرشوة عليهما ، وأثبت المشهد أن الضرات الثلاث بمختلف الجنسيات حسب لهجاتهن يرفضن الفساد.

المسرحية كانت بما تسقطه على واقعنا الاجتماعي بشكل كوميدي مقتضب من خلال المواقف أثار الضحك والسُّخرية من خلال مشاهد المشتكي المتهم الفنان عبدالله الغافري الذي كلّما أحس بالخناق عليه من خلال ابنه الذي ورطه مع مؤسسة أجنبية لاترحمه وتستنزف راتبه ولا تشبع بل تجرُّه للمحاكم يطالب بسجنه ، فهو لا يتبصَّر مخرجاً لقضية الدَّين الذي يطارده ليل نهار كان يعبر عنه بضرب ابنه فلذة كبده أمامهم ويطالبهم  بحبسه ، حتى يمكنه أن يتنفس.

بأداء الفنان الجميل الرائع عبدالله الغافري أبوحميد المتفرد الذي بذل جهداً كبيراً على الخشبة من حيث الحركة إلا أنه كان مُتبحراً في أعماق شخصيته التي كانت تجمع بين الشكل الكوميدي في إطارها الخارجي والمحزنة التي حافظ عليها من خلال أدائه ليعمق بها صورة المواطن المطحون.

مسرحية أعيال الرزة 6

الفنانون معظمهم أجادوا أدوارهم باقتدار ، منهم الفنان سليم جميع المعمري في دور القاضي الذي لعب الشخصية في حصافتها واتزانها وتبصُّرها التي تجمع بين الاستماع لطراف النزاعات والإنصات ثمَّ نطق بالحكم. وقد تميز القاضي بوضوح طبقة صوته وسلامة مخارج الحروف ، كما أنه في مواقف أخرى لعب شخصية العاشق الذي مهما بعد عن النساء إلا أن المرأة متواجدة في قلبه.

وأيضا تحية مني للنجم الجميل الرائع أيمن عبدالمعين (سامبو) الذي أجاد تقمص الشخصية النسائية بشكلها وروعتها وبأدائه العفوي وحركته على المسرح وأجد أن المؤلف المخرج وفق في اختيار هذه الشخصية التي خلقت جواً كوميدياً استثنائياً على الخشبة ومن وجهة نظري أنني بتُ مقتنعاً أنها شخصية متفردة لايمكن أن تؤديها فتاة عُمانية على الخشبة لأن المجتمع الصلالي والعُماني محكوم بعادات وتقاليد وقيم من الصَّعب التخلي عنها عند تجسيدها للشخصية.

تحية مني للفنَّان عبدالله مرعي ، وهو نجم معروف لديه وهج مسرحي ودرامي ، واستطاع أن يجسد شخصيتين مختلفتين (البدوي) و (الباكستاني) بإتقان. لقد ذاب في غياهب الشخصيتين ويكاد المشاهد لايعرفه من خلال تلك اللكنتين المختلفتين اللتين تحتاج إلى الكثير من التَّدريب.

مسرحية أعيال الرزة 7

المسرحية جسد أدوارها كما ذكرت فنانون عُمانيون لهم خبرة ومكانة في المسرح العُماني منهم : أشرف المشيخي (شروفان) و مطران عوض وعبدالله مرعي وسليم جميع وعبدالله الغافري أبوحميد ومرشد الرَّواحي وأيمن عبدالمعين (سامبو) وأحمد يحيى النَّوبي وعلي نصيب وفواز فايز (تفوندي) وعمر سائل وكذلك الفنانات المبدعات المتألقات : تونس رجب قصبوب من (عُمان) ووفاء مكي من (البحرين) وجيهان فوزي من (مصر) وسمره من (سيرلانكا).

وقد وقف مع هؤلاء النَّجوم المسرحيين المتألقون في هذا العرض ومن ورائهم طاقات شبابية إدارية سأذكرأسمائهم تشرُّفاً بهم وبعملهم الدَّؤوب لإنجاح العرض وإمتاع الجمهور الغفير الذي حضر العرض وهم : سعيد سالم المعشني وعلي الأسمرالمعشني وغازي سعيد المنهالي ومروان مفلح وصالح فرح قلون وخميس عبدالرضا ، وكذلك الفنَّان العُماني طلال خيرالله الذي أدَّى أغنية العرض المسرحي التي سجلت في استوديو صلالة ميوزك.

ومن خلال مشاهدتي للعرض المسرحي فإنني أتفق مع الأستاذ العُماني واسمه “عبدالله سالم البرعمي” حول بعض ما ذكره فنياً عن العرض في تويتر بقوله أن بعض المشاهد شابها صراخ وزعيق غير مبرر عكر مزاج المتلقي ، وهذا يدعوني إلى نقطتين مهمتين يجب أن يبني عليهما المؤلف المخرج شامس نصيب العرض في المراحل التَّطويرية بأن يحاول جاداً في تطوير الآداء لدي الممثلين حتى ولو غلبت الحالات الانفعالية في بعض المشاهد ويجب عليه أن يدرب بعض الممثلين على الإحساس بالحالة النابعة من داخل  الجوف لا من طبقة الحلق الصوتية ليظهر التعبير الانفعالي في أفضل صورة وعادة ما يصاحب التعبير الانفعالي الدَّاخلي تعبير وتأثيرات تنعكس على الوجه أيضاً.

أما النقطة الثانية يجب على المخرج الحرص في مراقبتها وهي أن الآداء باللهجة الدَّارجة تُعطي الممثلين مجالاً أوسع في الارتجال ، وهنا يجب على المخرج أن يكون حذر جداً ومراقباً أيضا لكي يلتزم الممثلون بالنَّص وفكرته ودلالة الصور المشهدية المعبرة حتى لايقع العرض المسرحي في إشكاليات التَّمطيط والاسهاب والحشو المملل ويعطي الممثلين مجالاً لإرتجال كوميديا لفظية رخيصة يترشقونها بعيداً عن تجسيد مواقف كوميدية.

مسرحية أعيال الرزة 8

أما مجمل ما ذكره الأخ البرعمي حسب انتقاده اللاذع الذي شكل وجهة نظره وثقافته .. فأنا لا أتفق معه ، حيث أجده مستفزاً بعبارات ذكرها : أن النَّص كان مفرغاً من قضية ولا إخراج للعرض ولا تمثيل والمخرج حول العرض إلى رقص وطبل ورزحة و(هيصة) وحتى الديكور أي كلام وهذا يعني أن هناك انهيار كامل للفنون.

وهذا الرأي أجد فيها تحاملاً وغير منطقي موجه منه للمسرح العُماني المحلي ، لقد غابت عن مداركه الأستاذ البرعمي الأسس الموضوعية في النقد ، فلم يذكر الجهد ويثني عليه ، ولم يسلط الضوء على الموضوع وصلته بمعانات المجتمعات الخليجية والعربية وعرضه لقضايا كثيرة طرحها وأهمها الفساد وبعض المشكلات. كما أجده ركَّز على الرقص والفنون الشعبية كفن الرزحة والعازي والمديمة والتَّغرود والطنبورة أو النوُّبان والليوه مثلاً التي بها تتفرد سلطنة عُمان على مرِّ العصور ، والفنون الشعبية موجودة في مجمل المجتمعات العربية والخليجية و لكن سلطنة عُمان تنفرد ببعض الفنون وتُعد مصدر رزق لبعض الفرق الشعبية العُمانية والمخرج أظهر فن الرزحة في طقوس زفة الزواج التقليدية وهي حتمية واقعية للعرض ، كما أظهر المخرج الرقص في صورة تنافسية بين الثلاث الضرات (المصرية والصلالية والبحرينية) ليَحُزْنَ على إعجاب سيدة البيت التي تعمل “طقاقة” في الأعراس ، وهي دائما ما تبحث عن مغنيات وراقصات في الأعراس .. والأعراس العربية والخليجية كلها فيها الغناء و الرقص حتى المجتمعات المنغلقة المتدثرة بالعادات والتقاليد نجد الفتيات والسيدات يغنين ويرقصن في قاعات الزفاف.

كما أجده أيضاً لم يسلط الضوء على أخطاء إخراجية لم يستثمرها المخرج عند تدريباته تتعلق بفن الآداء وتجسيد الشخصيات ولم يتوغل في عمق النص وتنامي تصاعده درامياً وقوة الآداء والحالات التي تتطلب من الممثلين الاشتغال لتجسيد شخصايتهم ، وأي المواضع التي أخفقوا فيها في تواصلهم مع الجمهور.

خلاصة القول أنني لمست من طرح الكاتب عبدالله سالم البرعمي اتهامات انطباعية منه لم تقرن بدلائل ، أنا من خلال تناول ما ذكره أردت أن أوضح له وللقراء أن المسرح العُماني بشكل عام والفرق العُمانية في صلالة مجتهدون في موسم استثمروا الخشبة بشكل صحيح والدليل عدد  الجماهير الكثيفة التي تقبل على مسرح أوبار كل مساء وتشتري التذاكر وتتفاعل مع العروض المسرحية . كما أن بعض الفرق المسرحية العُمانية أتابع انتاجها عبر الولايات العُمانية حققت التَّميز في مهرجانات السَّلطنة وكذلك في المهرجانات الخليجية والعربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى