آراء

مساحة الإِختلاف

بقلم : د. صالح الفهدي

Advertisement

كانت ردَّة رئيس إحدى الوحدات حين خالفه بعض كبار المسؤولين لدى الوحدة أن أقصاهم جانباً ، وهمَّشهم دون مسؤوليات ، وهم أصحابُ كفاءاتٍ ناضجةٍ ، وخبرات وازنةٍ في مجالات تخصصاتهم ، وبذلك أَوقع نفسه في فخِّ الشخصنة التي تشكِّل واحدةً من أضرى أعداءِ النظام العملي ، لأنها تُدخِل الخاص في العام ، والشخصي في العملي ، يقول الفيلسوف مالك بن نبي : “إننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص ، نحرم أنفسنا من الفكرة الجيدة حين تأتي من الضد ، ونتورط في الفكرة السخيفة طالما جاءت من صديق”.

هذا الرئيس حين رهنَ نفسه للشخصنة تركَ الحبل على الغارب لمشاعره غير المنضبطة كي تقوده ، ولم يقيِّدها برسن العقل ليضبط المشاعر ، ويحتمل الإِختلاف ، ويعي الصورة الكبرى التي تتمثَّل له ، وهي صورة الوطن الذي يتَّسع للإِختلاف ، بل وأَنه بحاجة للإِختلاف الذي يصبُّ في مصلحته ، ولأجل منفعته ، وفي سبيل بنائه وتقدِّمه وارتقائه.

Advertisement

ثم أَنَّه –أي الرئيس- لم يكن يمتلك البدائل الأفضل لتحلَّ محلَّ الكوادر التي اختلفت معه فأقصاها ، إذ جاءَ بمن هو أضعفُ منهم خبرةً ، وتجربةً ، وكفاءةً ، وهنا أصبحت الخسارة مضاعفة ، والضرر أكبر!.

أذكر هُنا رئيساً آخر لوحدة معيَّنة ، إذ كان يتنازلُ عن أفضل الكفاءات لمجرَّد اختلاف بسيط معه ، بل وأنه إن لمس نيَّةَ أيِّ صاحبِ كفاءة للخروج من الوحدة كان يُتْبعها بعبارته الشهيرة “بدلَك عشرة”!! ، وفي موقف مشابهٍ حدث في إحدى الجهات أن اختلف أحدهم مع رئيس تلك الجهة فكان التقاعدُ مصيره!.

إن مساحة الإِختلاف يُفترضُ أن تتوفر ، وأن تكون لها ضوابطها ، فقد لاحظتُ أَن لدينا -في ثقافتنا العامة- تقلُّصاً غير صحيٍّ في مساحة الإِختلاف ، فما إن يختلفُ أحد الأَشخاص مع آخر في موضوعٍ معيَّن من مواضيع الآراء العامة حتى يتحوَّل الإِختلاف على الفور إلى الشخصي! ، فتترك الفكرة التي كانت في الأصل محور الحوار واختلاف الرأي ، ويتفرَّغ الطرفان إلى مهاجمة بعضهما البعض عبر نبرات الصوت المتصاعدة ، والكلمات غير المهذبة ، والإِتهامات الزائفة..!

وفي القضايا العامة التي قد تناصرها مجموعة واسعة من الناس مع أَنَّ أكثرهم تابعين لرأي معيِّن صادرٍ من عدد محدود ، فإِنه لا يستطيع أحدٌ في المقابل أن يبوح بوجهةِ نظره ، لأنه يعلمُ بأَنه سيتم (طحنه) وإهالة التُّهم عليه ، حتى وإِن كان يتحدَّث بحجَّةٍ ودليل!.

ما المشكلةُ إذن في عدم تمتعنا بالمساحة الملائمة لتقبُّل الإِختلاف؟ أرى أنَّ هناك جملةُ أسباب أوجزها كما يلي :-

أولاً : عدم قدرتنا على الفصل بين الفكرة وصاحبها ، والرأي وقائله ، وميولنا إلى “معرفة الحق بالرجال” وليس “معرفة الرجال بالحق” ، وعلاجُ ذلك يكون بدراسة الفكرة والرأي من جميع الجوانب ثم الدخول في حوار مع الطرف الآخر المختلف لبيان حجج المعارضة ، وأدلة الإِختلاف.

ثانياً : الخلط في الهدف من وراءِ الإختلاف ، أهو طلب الحقيقة أم النصر على الآخر؟ وهذا مردَّه إلى قصر النظر ، وضيق الرؤية ، وفي هذا يقول الشافعي : “رأئي صوابٌ يحتملُ الخطأ ، ورأي غير خطأ يحتملُ الصواب” ، وهذه مقولة تدلُّ على أن صاحبها لا يعنيه أن ينتصر رأيه ، بل يعنيه سداد الرأي ، كيف لا وهو القائل : “ما جادلتُ أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه” أما أغلب المختلفين فيعتقدون بمقولة “رأئي صواب (لا) يحتمل الخطأ” ، ويتمنون أن يظهر الله الحق على ألسنتهم ، لأنَّ الحقيقة لا تعنيهم بل يعنيهم الإنتصار على الآخر!

ثالثاً : ما هو معتقد لدى البعض في أن من يكون في منصب رفيع يعني أن رأيه هو الصواب ، ورأي من دونه خطأ ، وهذا غير صحيح ، وقد قالها عمر الفاروق رضي الله عنه : “أصابت امرأة وأخطأ عمر” ، هذا لأن مساحة الإِختلاف واسعة ومقبولة.

نحنُ بحاجةٍ إلى اتساع مساحة الإِختلاف ، بشرط ان تكون مساحةً  -على اتساعها- منضبطة بشروط احترام وجهات نظر المختلفين ، واستخدام الوسائل المهذبة كالأسلوب الحواري ، ونبرة الصوت ، ولغة الجسد ، والألفاظ ، والبراهين ، لأننا لا يمكن أن نتطور إن لم نحترم الإِختلاف ، ولا نزدادُ وعياً ونضجاً إن لم نستمع لوجهات نظر مغايرة لوجهات النظر المترسخة فينا ، يقول ثورو “Thoreau” كيف لنا أن نتذكر جهلنا الذي يحتاج إليه نمونا إذا كنا نستخدم معرفتنا طوال الوقت؟.

https://alroya.om/p/334234

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى