آراء

صناعة الأثر

بقلم : د. صالح الفهدي

Advertisement

قال أحدهم : “قد لا يكون لدينا تصورًا واضحًا للمستقبل ، لكننا نحرصُ على اتخاذ القرارات الصحيحة بقدر ما نستطيع في حاضرنا” ، وهذه في نظري هي الخطوة الأهم في صناعة الأثر؛ أي أن يتخذ القرارات الصحيحة بقدر ما يتصوّرُ أنها صحيحة ، وعلى إِثر ذلك يتحدّد المستقبل ، وترتسم صورته ، فالذي يتجّهُ إلى مكانٍ وهو لا يعرفُ الطريق إليه ، فإِن أوّل ما يفعلهُ هو أن ينظر موقعه في الخارطة ثم يبحثُ عن أمثلِ وأفضل الطرق المؤدِّية إليه ، بعد ذلك ينطلقُ متوجِّهًا نحوه ، ولا يحيدُ عنهُ ، ولهذا يُقالُ : “من جدّ وجد ، ومن سار على الدربِ وصل” ، أي وصل إلى مبتغاهُ طالما حدّد لنفسه الطريق الصحيح.

تتساوقُ إلى ذهني وجوهُ بعض الناس الذين عرفتُ فيهم الرشد لكنّهم صنعوا لأنفسهم أثرًا غير حميد ، لأنّهم قرروا في لحظةٍ من اللحظات أن يتّجهوا نحو غايةٍ طرح لأجلها الطمع أنفسهم فأرداها ، وأعمى قلوبها ، وأصمّ آذانها ، ورسم لهم أنفسهم وهم في غنىً فاحش ، ورفاهيةٍ طافحةٍ ، ووجاهةٍ نافذةٍ ، لكنّهم- وهم في الطريقِ لتلك الغاية- وقعوا في حفرةٍ كلّفتهم أثمانًا باهظةً ، فألقوا وراء القضبانِ ، وصار الأثرُ الذي كانوا يحلمون بصنعهِ لأجل مجدهم وبالًا على سمعتهم ، وخيبةً على آمالهم ، وخزيًا على أُسرهم ، ونكالًا على أنفسهم ، ولو أنهم “اتخذوا القرارات الصحيحة” قبل أن يخطو خطاهم الأُولى ، لتمثّلت لهم كل هذه الصور القاتمة المُرعبة ، ورأوا الأثر الوخيم الذي سلكوه وراءهم ، والحفر التي يمكنُ أن يقعوا فيها ، لكنّ غيّهم غلب رشدهم ، وهواهم غشى على نظرهم ، وطمعهم تحكّم في عقلهم.

Advertisement

1693861266746

والنّاسُ بين ثلاثة : صانعُ أثرٍ إيجابي من أجل الخير ، وصانعُ أثرٍ سلبيِّ من أجل الشهرة الزائفة ، وثالث حيادي لا أثر له ، وكأن وجوده عدم ، أمّا الأوّل فهو الذي ترى أثره في المجتمعِ بيِّنًا ، جليًّا ، في أعمالِ البرِّ التي يفعلها ، أو يدعو لها ، أو تراهُ نشطًا في مجالِ التّطوِّعِ يسخِّرُ جهودهُ ، وطاقته من أجل مساعدةِ النّاس ، والأخذِ بأياديهم ، أو تجدهُ مجتهدًا في الإِصلاحِ بما يملكُ من موهبةٍ وقدرةٍ على إيصال الكلمة الطيبة ، والنصيحة السديدة ، أو تنظرُ إليه وقد أفاد الناس من علمه الذي رزقهُ الله إياه ، أو من مهنته التي تميّز فيها ، أو ساعد النّاس من مالٍ استخلفهُ اللهُ عليه.

هذا النموذج المشرِّف لصانع الأثر الإيجابي الحميد يُبرزُ نفسه ، ويسعى إلى غايته بذاته ، ولديّ في ذلك أمثلةٌ أذكرُ منها أنّ طبيب أسنانٍ تواصل معي ليطلب مني أن أوصلهُ بجمعية خيرية تهتم بالمسنِّين ، لأنه يريدُ أن يساعد في علاجهم دون مقابل هو وفريقه من الأطباء والممرضين ، وهكذا تم له الأمر ، وآخر يطلبُ مني أن أُوصل إليه كل من كان في حاجةٍ مالية ليساعده ولو بالنزر القليل ، وآخر أفادني بأنه يسعى إلى كلِّ من حاد عن منهجِ اللهِ فألحد ليعيد إليه رشده ، ويبشرني بالأعداد التي منّ الله هديهم على يديه ، يقول الشاعر عروة بن الورد :

أحاديث تبقى والفتى غيرُ خالِدٍ

إِذا هُو أمسى هامةً فوق صُيّرِ

أما النوع الثاني من الناس وهو صانع الأثر السلبي الذي يسعى وراء شهرةٍ زائفة ، فهذا ينتمي إلى “المروِّجين” ، و”المسوِّقين” لفسادِ الأخلاق بتخليهم عن الحشمةِ ، والعفّةِ ، وحفظ العِرضِ بغية فقاعات الشهرة المغشوشة التي ظنوا أنّ انسلاخهم الأخلاقي يجعلهم من صنّاع الأثر ، دون أن يعنيهم نوع الأثر ، حتى ارتدُّت عليهم أفعالهم خزيًا وضياعًا وفسادًا.

أما الثالث الذي لا أثر له في حياته فهو ذلك السّبهلل الذي لا ظلّ لهُ إن مشى ، ولا أثر له إن خطا ، ولا صوت له إن تكلّم ، وهو الذي يقول فيه المثل الشعبي : “إن جئت غير منقود ، وإن غبت غير مفقود” ، يمضي كما الغبارُ الذي لا يتركُ أثرًا بعده ، ويرحل كما ترحل آثار الخطى التي يكنسها موج البحر على الساحل.

صناعة الأثر لا يجدر بها إلا “المؤثرين” الذين يتميّزون في أفكارهم ، وأخلاقهم ، وأعمالهم ، فيفيدون أنفسهم ومجتمعهم ووطنهم ، ويصبحون قدواتٍ لها أثرها الإيجابي عند الناس. هؤلاءِ هم العظماء الذين تقدّمت بهم أوطانهم ، وارتقت بهم مجتمعاتهم ، وسادت بهم أُممهم ، تمثّل صنّاع الأثرِ بقول أحمد شوقي :

خُذ لك زادينِ مِن سيرةٍ

ومِن عملٍ صالِحٍ يُدّخر

وكُن في الطريقِ عفيف الخُطا

شريف السماعِ كريم النظر

وكُن رجُلًا إِن أتوا بعدهُ

يقولون مرّ وهذا الأثر

المصدر : https://alroya.om/p/334328

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى