قراءة في كتاب

“السيطرة الصامتة”.. “الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية”

اختارت “نورينا هيرتس” عنوان (السيطرة الصامتة) لتصدِّر به الصفحة الأولى لكتابها الصادر عن سلسلة “عالم المعرفة”؛ في خطوة منها – كما يبدو من بين سطور الكتاب- لدراسة التبرير الأخلاقي للرأسمالية التي ترى أنها تشجع الحكومات على بيع مواطنيها بثمن بخس.. متخطية في سبيل ذلك حدود تشريعات تخسر فيها الأغلبية وتربح الأقلية ، لتظهر كيف أن السيطرة تعرض الديمقراطية للخطر، وأن وضع الشركات الكبرى في الصدارة يعرِّض شرعية الدولة نفسها للخطر حين تتولى هذه الشركات أدوار الحكومات.

Advertisement

وفي مقدمة كتابها، تؤكد “هيرتس” على أن نمو تلك الشركات الرأسمالية “تسارع مع نهاية الحرب الباردة بشكل هائل، وأصبحت دولة السياسة هي دولة الشركات، ورغم عدم اعتراف الحكومات بهذه السيطرة، إلا أنها تجازف بتحطيم العقد الضمني بين الدولة والمواطن الذي هو أساس المجتمع الديمقراطي”.. وبحسب مؤلفة الكتاب فقد “امتدت تلك السيطرة عبر الولايات المتحدة إلى دول أوروبا الغربية، وشملت دول أمريكا اللاتينة والشرق الأقصى؛ حتى غدا الناس أقل ثقة بالمؤسسات الحكومية الآن مما كانوا عليه قبل عشر سنوات”.

لتقدم “هيرتس” عبر كتابها صورة حقيقية لأنماط معيشتنا الآن، مظهرة كيف تستخدم الشركات الحكومات، وكيف تضغط عليها بطرق شرعية وغير شرعية، كما تبرز كذلك كيف أصبح الاحتجاج سلاحاً أقوى من سلاح صندوق الاقتراع، معرجة في ذلك على جبروت وسائل الإعلام الكبرى في صياغة الرأي العام وتوجيهه.. كاشفة في ذلك عن الدور الذي أخذت الشركات الكبرى تضطلع به بدلاً من الدولة، من توفير ضروب من التكنولوجيا للمدارس إلى توفير الرعاية الصحية والاجتماعية للمجتمع، وما يستتبع ذلك من سيطرة تمارسها هذه الشركات على الجهات المستفيدة من تلك الخدمات.

Advertisement

ويحفل الكتاب عبر صفحات فصوله، بالعديد من المقولات التي يُرجح أن يختزنها التاريخ الاقتصادي؛ لتظل بمثابة منارات يسترشد بها القادمون في المستقبل؛ ومن بين تلك العبارات، قول “هيرتس”: (لقد انتصرت الرأسمالية، ولكن غنائمها لم تصل إلى الجميع)، (إن المجاعات يمكن أن تحدث مع أن الصوامع مليئة بالقمح)، (إن عالماً لا تتوازن فيه الاعتبارات الاقتصادية بالمصالح الأخرى يمكن أن يكون عالماً قاتماً)، (لقد كانت تاتشر على خطأ أن ليس هناك شيء اسمه مجتمع)، (إنهم قادرون على بناء جزر من التعاون وسط بحار من النزاع)، (إن العمال والمستهلكين لم يعودوا يشترون المنتج، وإنما يشترون روح الشركة)، (إن المرحلة الأخيرة من السيطرة هي نهاية السياسة نفسها، وقد تهاوت في دوائر الاحتجاج والقمع واليأس)، (إذا بقينا عالماً يقترف مثل هذا التنافر في السلطة، وإذا استمر عدم المساواة في الزيادة بالمعدل الذي رأيناه خلال السنوات العشرين الماضية، فإن ما سنشهده هو حلول الاحتجاج محل السياسة، ومعها اختفاء الديمقراطية نفسها، حتى عند تلك الدول التي تفاخر بأنها ديمقراطية، وإذا لم تستعد الدولة الشعب، فإن الشعب لن يستعيد الدولة، وإذا لم توزع منافع العولمة على نطاق أوسع فإن الشعب سيظل يثور ضد العولمة).

قراءة فيما بين السطور

إلى ذلك، فقد جاءت محتويات الكتاب مفصلة على النحو التالي: الفصل الأول (الثورة لن تُتلفز)، ثم الثاني (العيش في عالم مادي)، فالثالث (دعوهم يأكلون كعكاً)، يليه الرابع (حراسة مركز قيادة القطاع الخاص)، والفصل الخامس (سياسة للبيع)، ثم (تَسوَّق.. لا تُصوت)، واختارت عنوانًا للفصل السابع من الكتاب ليكون (كل ذاك البريق!)، ليأتي الفصل الثامن (مقاولون غيارى)، والتاسع (شغل الأم)، ثم الفصل قبل الأخير (من الذي سيحرس الحرس؟)، وأخيرًا الفصل الحادي عشر (استرجاع الدولة).

وبقراءة ما بين السطور، نستشف ما أرادت أن تصل إليه “هيرتس” وهو حجم الخطورة التي تنطوي عليها الرأسمالية في إهلاك الحياة السياسية لأي مجتمع حتى يكون الصفوة وحدهم هم الفائزون؛ ويتبدى ذلك حينما تقول: “يوحي التاريخ بأن هذا ممكن.. ففي بداية القرن الماضي كانت الولايات المتحدة تتمتع بحقبة من الانتعاش النسبي ، لم تكن تختلف عن حقبتنا خلال السنوات الثلاثين الماضية ، فقد تضاعف الإنتاج الزراعي ، وتضاعف استخراج الفحم خمس مرات ، وزاد انتاج النفط الخام بمعدل اثني عشر ضعفا. ولكن الفلاحين ظلوا يواجهون باضطراد عائدات متدنية علي الرغم من زيادة المحصول ، وصار الإنتاج الصناعي يتركز بسرعة في أيدي عدد قليل من الشركات الكبري ، وكان الساسة الأقوياء زعماء علي مستوي المدينة والدولة والأمة ، يمنحون الشركات الكبيرة تسهيلات لكي يظفروا من هذه الشركات بدعم مالي لآلاتهم”.

أسباب أخرى

وفي سياق البحث في حقب التاريخ المختلفة للوقوف على أسباب أخرى لتلك الآفة، تقول “هيرتس”: “لقد اجتذبت الحروب والكساد في الماضي اهتمام الأمة كلها ، ولكن الإصلاح لم يجتذبها قط ، وبعد ذلك بأكثر من خمسين سنة ، وفي أعقاب الحرب الفيتنامية ، رأينا ميلادًا جديدا للراديكالية، ولكن هذه المرة كانت هناك مطالب دولية للسلام ، وتوسع في الحقوق المدنية ، ومقاومة للعنصرية ، وتحرير للمرأة، وهذه بعض القضايا التي أفرزت مشاهد لا نظير لها من الاحتجاج في لندن وواشنطن، وأخذت فرنسا إلي حافة الثورة في مايو من العام 1968، وجرت ضمن هذا الإطار في أوروبا عملية مشابهة لتلك التي جرت في أثناء الحقبة التقدمية، وهي عملية ترجمت نقمة اجتماعية عريضة في عمل سريع وفعال خارج القنوات السياسية التقليدية ، ولم تتركز هذه المرة على نقاشات القضايا السياسية والاقتصادية فحسب، وإنما تركزت علي المجتمع ومعاناة الكادحين فيه”.

… وهكذا؛ وعلى هذا المنوال ، تتفحص “نورينا هيرتس” عالم (السيطرة الصامتة) محاولة تفهمه، لتؤكد على ما قدَّمت به لكتابها، أنها لا تريد من بحثها أن يكون ضد الرأسمالية ، ولكن ليكون نصيرًا للشعب والديمقراطية.

◄ الكتاب: “السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية”.

◄ المؤلف: “نورينا هيرتس”.

◄ الناشر: سلسلة عالم المعرفة/ 2007.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى