حوارات

أحمد الفلاحي … حين تكتُبُ الثقافةُ ذاكِرتها بِصوتٍ يُشبهُ الحِكمةَ

حاورته : سيلينا السعيد – هرمز نيوز

Advertisement

في مساءٍ تشبّع برائحة الهيل، وفي مجلسٍ يطلّ على ذاكرةٍ تتنفّس الأدب، جلستُ أمام رجلٍ لا يشبه أحدًا. لم يكن اللقاء مجرّد مقابلة صحفية، بل أشبه برحلة حجّ صغيرة إلى معبد الثقافة العُمانية. أمامي جلس أحمد الفلاحي، رجلٌ يشبه الحرف حين يصفو، والصوت حين يهمس بالحكمة. كان حضوره ثقيلاً بالمعرفة، خفيفًا كنسمة.

لم يكن اللقاء معه بداية، بل عودة… إلى الجذور، إلى الحكاية الأولى.

Advertisement

أحمد

النشأة: حيث تتنفس الجبال الحروف

في وادي “نام”، لم تكن الجبال صامتة كما يُظنّ، بل كانت تتحدث من خلال صبيّ صغير يُدعى أحمد، يحمل في عينيه أسئلة لا تنتهي. لم يركض خلف لعبة خشبية، بل خلف كلمة. لم يُلاحق طيور السماء، بل أسرار الحكايات.

فقد والدته صغيرًا، فانطفأ شيءٌ من الحنان، واشتعل بالمقابل نور الحنين. كانت الجدة هي الحكاية، وكان العمُّ المعلّم الأول، أما المذياع فكان النافذة التي أطلّ منها على الحياة.

قال لي، بابتسامة تُشبه من يسترجع زمنًا مقدّسًا:

المذياع لم يكن صوتًا فقط… كان نافذةً على الوعي.”

تلك العلبة الخشبية الناطقة أدخلت العالم إلى البيت الطينيّ، إلى قريةٍ تبحث عن نبأ، عن فكرة، عن معنى. وهناك وُلد الشغف الأول.

الغربة الأولى… حين تعلّمت الحروف أن تمشي

في البحرين، اتّسع أفقه الثقافي. رأى هناك ما لم يره من قبل: صحف تُطبع، نساء مثقفات، كتب تُباع على الأرصفة، وقصائد تتلوها المقاهي.

أحمد

قال:

هناك… أدركتُ أن للكلمة وزنًا. وأن الكاتب ليس هاويًا، بل حارسٌ للمعنى.”

ثم جاءت القاهرة، العاصمة التي تنام على الحبر وتستيقظ على الأسئلة. مشى في شوارع نجيب محفوظ، أصغى إلى صمت طه حسين، وتنشّق هواء الفكر كما يُتنشّق بخور المعابد.

في القاهرة، تعلّمت كيف أحبّ اللغة. كيف تُصبح الكلمة حضنًا حين تغترب.”

العودة إلى الوطن… والكتابة كرسالة

حين عاد إلى عُمان، لم يعد شابًا عاديًا، بل شجرة محمّلة بالتجربة. عمل في الإذاعة لا كموظف، بل كصوتٍ يحمل الذاكرة للناس. قدّم برامج شكّلت ذاكرة جيل: “بين الفقه والأدب”، “أدبنا العربي”، و”من أعلامنا”.

أسّس مجلة “الغدير”، لا لتكون منبرًا للنخبة، بل مرآةً للهوية العُمانية.

قال عنها:

الغدير كانت ابنتي… أنجبتُها من تعب السنين، ومن شوقي إلى ما لم أكتبه بعد.”

أحمد

الكتابة… أن تخلّد ما لا يُخلَّد

كتب الشعر، ثم مال إلى النثر، وكتب المقال، والبحث، والدراسة. لم يكتب ليتباهى، بل ليحفظ الذاكرة من الذبول.

أنا أكتب كي لا تموت الأسماء، كي لا تتيه الأماكن، كي لا يفقد التمر نكهته في ذاكرتنا.”

كان دائمًا يشبه الحروف العربية: يكتب لا ليعلو، بل ليُبقي الأثر حيًّا.

حتى الشاعر نزار قباني وصفه ذات يوم بأنه “كتيبة من الشعر، والظرف، والرواية، والثقافة”، في رسالة شخصية تعود لعام 1993، بعث بها إلى الشاعر سيف الرحبي، عبّر فيها عن إعجابه العميق بهذا الحضور الثقافي الذي لا يُنسى.

مجلسه… حين تلتقي القهوة بالحكمة

في مجلسه بمسقط، حيث القهوة تُقدَّم كما يجب، دعاني للجلوس في ركنٍ يطلّ على الذاكرة. كانت القهوة مُرّة كالحياة، وعابقة كالتاريخ. ناولني التمر وقال:

لا تكتمل الحكاية دون حلاوة… والتمر هو سرّ العُمانيين، تمامًا كالصبر.”

لم يكن ذلك لقاءً عابرًا، بل طقسًا من طقوس الانتماء. شعرتُ وكأنني أقرأ كتابًا حيًّا، لا يُكتب بالحبر بل بالعمر.

وقبل أن أغادر، مدّ يده إلى رفوف مكتبته، واختار لي أجمل ما كتب. همس لي:

أحمد

هذه لكِ… كلماتي التي كنت أفتّش فيها عن نفسي… قد تجدين فيها نفسكِ أيضًا.”

أحمد الفلاحي… رجلٌ يكتب كي لا يذبل الوطن

أحمد الفلاحي ليس مجرد كاتب، بل شجرة، وجذور، وظل، وثمر. هو الذي يجعلنا نؤمن أن من يكتب بإخلاص لا يموت، وأن الوطن الحقيقي يُصنع بالكلمات.

وحين سألته في نهاية اللقاء:

لو عاد بك العمر إلى ذلك الطفل الذي يسمع المذياع لأول مرة… ماذا ستقول له؟

أجاب بعد تنهيدةٍ حالمة:

سأقول له: اصبر… في داخلك رجلٌ سيحمل الثقافة على كتفيه، ويزرع في الطريق وردًا لا يذبل.”

خرجتُ من عنده، والتمر لا يزال في فمي، وعبق القهوة في ثيابي، وكلماتُه في قلبي.

لقد غيّرني ذلك اللقاء. لم أخرج منه صحفية، بل قارئة جديدة لحكاية اسمها أحمد الفلاحي… وحين تُكتب الحكاية بهذا الصدق، فإنها لا تُنسى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى