ثقافة وفن

تيبَّس أغزر فلج في “المعمور”

فيا لعطش "وذحة"

كتب : حمود بن سالم السيابي

Advertisement

كلما طُوِيَتْ عمامةٌ شمَمْنا فيها رائحة الإمام الرضي الخليلي.

وكلما ودَّعنا وجهاً تتراءى فيه قسمات رجال القرن الأول الهجري انتسب ذلك لدولة الإمام الخليلي.

Advertisement

وكلما تسامعْنا عن فقيه عُماني تُضْربُ لحلقات درسه أكباد الإبل كان من خريجي مدرسة الإمام الخليلي.

كان الزمن الخليلي مشدوداً للزمن الأول.

وكأنَّ رجالُ الإمام الخليلي الذين امتد بهم العمر إلى زماننا ليسوا من زماننا.

ولا تفسير لكل ذلك سوى التسديد والتوفيق ، فالإمام الرضي الخليلي كان ينتزعهم من ظل آبائهم ليتنعَّموا بظلَّه.

وكان يغرسهم في جنائن دولته فيشبُّوا عن الطوق قبل الآوان ، فهم دعوته وفراسته.

وكان يعقد لهم ألوية الجيوش فيأتمروا  على الأسنّ منهم فيحضر في المشهد نظراء أسامة بن زيد.

وكان الإمام يقلدهم أمور القضاء فيرى فيهم شريح القاضي ، وعروة بن الجعد البارقي فيسود العدل بين الرعية.

وكان يعين من خريجي مدرسته ولاة بقامات تطاول معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وسعد بن أبي وقاص ، فتتسامى المواقع الرفيعة وتزدان بمثلهم البلدان.

fakee3

وكان يضع ثقته فيهم كجباة للزكوات لرفد بيت المال فيؤدون المهام بيقين أن عين الله تراقبهم لا عيون رجال الإمام.

ولمجرد أن تُطْوى عمامة في مشرق الوطن أو مغربه فإن اللواء الأبيض على سارية مدرسة الإمام أول من ينكّس  ، لينتقل الاسم من قوائم سجلات الحضور في حلقات الدرس إلى قوائم البقاء في سجلات الذاكرة.

والشيخ سعيد بن فاضل الشعيلي بين من انتقلوا في السجلات فأوجع قلب نزوى قبل بُهلا.

وأغرق رحيله “حارة العقر” في الحزن قبل “وذحة” رغم أن “وذحة” المشيمة الأولى وربيعيات الصبا ورائحة الآباء.

كما اعتصرتْ بساتين جدِّه في نزوى ليمونها حزناً ، وهي تستذكر يداً كريمة امتدت ذات موسم فيكتب الله في الإكسير الحامض الشفاء ، فالليمون كما يقال صيدلية المنزل فكيف المآل إذا كان كاتب الوصفة هو الطبيب الخليلي إمام الدولة والراعي الأشفق بالرعية.

وفي تفاصيل سيرة الحضور والغياب فقد شدَّ الشيخ سعيد بن فاضل الشعيلي الرحال إلى نزوى ملتحقاً بجامعها الأشهر.

وكان ممن يترقبون قدوم سيدنا العلامة خلفان بن جميل السيابي إلى مسجد “مَوَدّ” بفارغ الصبر ، فمن عادة الشيخ السيابي الإقامة بغرفة ملحقة بالمسجد لدى تردده على نزوى ، فيقصده الشيخ الشعيلي ليستزيد من علمه ، بل وكان يتبعه إلى مسجده في الفيحاء ، على اعتبار أن مساجد نزوى ومساجد ما بعد بعد نزوى هي كليات لجامع العقر ، ولبرزة ظِلِّ الشهباء ولجلسة غرفة الصلاة في الحصن.

ودار الزمن دورته ليكمل الشيخ الجليل سعيد بن فاضل الشعيلي المهمة فيلتحق بالتدريس في مدرسة محمد بن بركة لأكثر من عقدين حتى تقاعده من الوظيفة في تسعينيات القرن الماضي لتستمر الرسالة حتى النزع الأخير.

ولقد ارتبط الشيخ سعيد الشعيلي بالإمام الخليلي ، فلا يذكر الإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي في مجلس يحضره  إلا واغرورقت عيناه وهو يقول لقد عشناه أباً ، وكانت نزوى وطناً.

fakee2

“ولم نستشعر بالبعد عن الأهل ولا بالغربة عن الوطن فكان رضوان الله عليه يحيطنا بمشاعره الفياضة فننسى أننا انتقلنا من هناك إلى هنا”.

وقد زاره يوما سماحة سيدنا العلامة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي لينعش ذاكرته بالزمن الذي أحبَّه ، وكان الشيخ الشعيلي يومها يلامس سقف المائة عام فسأله العلامة الخليلي عن قصة الليمون فأوجز الشيخ الشعيلي الرد ، لينصرف بعدها إلى الدُّعاء لسماحته بأن يوفقه الله لإكمال مشاريع كتُبه فذلك أهم من عصْر حامض البساتين في أسماع الحاضرين.

وجاءه سيدنا العلامة الرباني الشيخ حمود الصوافي لأجل تمتين جسوره مع الزمن الخليلي فسأله عن الإمام والعلماء والزملاء لينتهي بالليمون ، فكان الشيخ الشعيلي يبدي ندم محارب بن قيس الكسعي الذي كسر قوساً أصاب قصده “ولات ساعة مندم” فأنشد الشعيلي في حضرة الشيخ الصوافي رائعة “ندم” الكسعي التي باتت مثلاً

أَبَعْدَ خَمْسٍ قَدْ حَفِظْتُ عَدَّهَا

أَحْمِلُ قَوْسِي وَأُرِيدُ رَدَّهَا

أَخْزَى الإِلَهُ لينَهَا وَشَدَّها

وَاللهِ لَا تَسْلَمُ مِنِّي بَعْدَهَا

وَلَا أُرَجِّي ـ مَا حَيِيتُ ـ

رِفْدَهَا.

وكان الشيخ سعيد الشعيلي مُحبا للشعر وحافظا لروائعه ، وكثير الاستشهاد بأبيات فحوله.

ولطالما ترنَّم بحائية أشجع السلمي  :

وَما أَنا مِن رُزءٍ وَإِن جَلَّ جازِعٌ

وَلا لِاِغتِباطٍ بَعدَ مَوتِكَ فارحُ

 

كَأَن لَم يَمُت حَيٌّ سِواكَ وَلَم تَقُم

عَلى أَحَدٍ إِلّا عَلَيكَ النَوائِحُ

لَئِن حَسُنَت فيكَ المَراثي وَذِكرُها

لَقَد حَسُنَت مِن قَبلُ فيكَ المَدائِحُ

وما دمنا في سياق الحديث عن الشعر فلعل أغلى هدية تلقاها الشيخ سعيد الشعيلي هي تلك التي حملها الشيخ الدكتور محمد بن سيف الشعيلي ، والمتمثلة في موسوعة أمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي بتحقيق الأديب الكبير الشيخ الأثيل النعماني ليتنفّس فيها الشيخ الشعيلي عبير الزمن النزوي.

وكان لا بد للرحلة المباركة للشيخ من محطة استراحة ، ولقطار العمر الذي غزل المشاوير طوال مائة وخمسة أعوام من توقف ، بعد أن وهن الجسد وشاب القلب وازدادت متاعب البروستاتا ليغادرنا العاشق لصبابات قيس بن الملوح ، والكثير الاستدعاء لوجعه ووجع قيس دون أن يجد مبادلاً لكبد مقروحة بكبد ليست بذات قروح  :

وَلي كَبِدٌ مَقروحَةٌ مَن يَبيعُني

بِها كَبِداً لَيسَت بِذاتِ قُروحِ

أَبيعُ وَيَأبى الناسُ لا يَشتَرونَها

وَمَن يَشتَري ذا عِلَّةٍ بِصَحيحِ

وكان الشيخ الدكتور خميس بن ماجد الصباري بين من أضناهم فراقه ، فالشيخ الراحل ممن تحَسُن فيه المَراثي  وتحَسُن مِن قَبلُ فيه المَدائِحُ :

مسـاء مضـى عنـا سعيـد بـن فاضـل

إلى ربــه مـولـى الـكــرام الأفــاضــل

 

مضى مجلس الفقه الشريف ورقرقت

دمـوع شـداة الشعـر قـرب المناهـل

وغـمـغـم طـيـر كـان أفـصـح نـاطـق

بوذحـة حيـث الأنـس مـع كـل قـائـل

فمن بعدكـم للفقـه والشعـر والنـدى

وللأدب الـسـامــي وكــل مـسـاجــل

رعـى الـلـه أيـامـا حـفـظـنـا ودادهــا

لهـا في صميـم القـلـب أبـلـغ مـاثـل

قطـفـنـا أزاهـيـر الصـداقـة صـحـبـة

مـبـاركـة مــع كــل أفـصــح عـاقــل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى