GreatOffer
قراءة في كتاب

قراءة في مفهوم القوة الناعمة وكتاب “قوة التفاوض” لعباس عراقجي

القوة الناعمة: حين تصنع الكلمات ما تعجز عنه البنادق

بقلم: سيلينا السعيد

Advertisement GreatOffer

في عالم يضج بالصراعات وتقاطع المصالح، لم تعد القوة العسكرية وحدها كفيلة بترجيح كفة النفوذ. فاليوم، تبرز “القوة الناعمة” كأداة استراتيجية لصياغة التأثير عبر الثقافة والقيم والحوار، بعيدًا عن القهر والعنف. ويُعد كتاب “قوة التفاوض” للدبلوماسي الإيراني عباس عراقجي نموذجًا ملموسًا لهذا التحول، حيث يعرض التفاوض كفنّ متقن في ميدان القوة الناعمة لا يقل أهمية عن السلاح في صراعات السياسة الدولية.

القوة الناعمة: ذكاء النفوذ ودهاء التأثير

Advertisement

ظهر مفهوم “القوة الناعمة” في تسعينيات القرن الماضي على يد المفكر الأميركي جوزيف ناي، مشيرًا إلى القدرة على تحقيق الأهداف من خلال الجاذبية الثقافية والإقناع، بدلاً من الإكراه أو الترغيب المادي. وتشمل أدواتها تصدير الثقافة، تعزيز القيم، دعم التعليم، وتوظيف الدبلوماسية العامة لبناء صورة إيجابية للدولة أو المؤسسة.

في هذا السياق، تصبح السينما، الفنون، الأدب، والرياضة وسائل لصياغة إدراك الشعوب، والتأثير على الرأي العام العالمي، مما يجعلها عناصر فعالة في الحضور الدولي. إلا أن هناك بعدًا آخر غالبًا ما يُغفل، وهو التفاوض بوصفه التعبير الأرقى عن القوة الناعمة.

التفاوض… جوهر الدبلوماسية الناعمة

يتناول عباس عراقجي في كتابه “قوة التفاوض” تجربته الطويلة على طاولات الحوار، لا سيما خلال المفاوضات النووية الإيرانية، كاشفًا عن التفاوض كأداة استراتيجية تتجاوز كونها مجرد نقاشات لحظية أو مساومات آنية. فالتفاوض، بحسب عراقجي، هو بناء متأنٍ للثقة والمكانة والنفوذ، وهو أحد أعمدة القوة الناعمة التي تؤثر بذكاء دون تهديد.

يرى عراقجي أن المفاوض المحنّك لا يقتصر على المهارة الكلامية، بل يستند إلى إدارة واعية للزمن والأحداث، وفهم عميق لتشابك المصالح، واستخدام دقيق للذكاء العاطفي. وهذا ما يجعل التفاوض وسيلة لتحقيق الأهداف بهدوء واتزان، بعيدًا عن صدام السلاح وفوضى القوة.

تكامل الأدوات: الثقافة تفتح الأبواب والتفاوض يوقع الصفقات

تُعد الدبلوماسية الثقافية الوجه الآخر المكمل للقوة الناعمة، حيث تزرع الفنون والكتب والموسيقى الانطباع الإيجابي، بينما يأتي التفاوض ليُحوّل هذا الانطباع إلى إنجازات سياسية واقتصادية. فالثقافة تُمهّد الطريق، والتفاوض يقطف الثمار، والقيم تمنح الشرعية.

ويؤكد عراقجي أن المفاوض الناجح هو من يمثل بلاده بصورة محترمة، يستند فيها إلى تراث ثقافي وقيمي يضيف عمقًا لخطابه، ما يعزز فرصه في كسب احترام الآخرين وتحقيق نتائج طويلة المدى.

فرصة للعالم العربي: استعادة المبادرة بالقوة الناعمة

يمتلك العالم العربي مخزونًا هائلًا من عناصر القوة الناعمة: لغة عربية عالمية، تراث ثقافي وأدبي غني، قيم إنسانية وروحية عميقة، وفنون تعبر الحدود. غير أن هذه المقومات لا تزال بحاجة إلى استثمار إستراتيجي ذكي لتحويلها إلى نفوذ فاعل في العلاقات الدولية.

كما أن التفاوض ينبغي أن يكون أداة محورية في معالجة النزاعات الإقليمية، وبناء علاقات دولية أكثر عدلًا، ورسم مستقبل أكثر استقرارًا بعيدًا عن منطق الانقسام والقوة العسكرية.

الكلمات تصنع التاريخ

لا يقدّم عباس عراقجي في كتابه مجرد تقنيات تفاوضية، بل ينقل رسالة فلسفية عميقة: أن الكلمات حين تُحسن إدارتها تصبح أقوى من الرصاص، وأن التفاوض الذكي هو امتداد راقٍ للقوة الناعمة.

في عالم سريع التحول، تبقى القوة الناعمة الطريق الأنجع نحو نفوذ مستدام. فمن يمتلك مهارة السرد المؤثر، والقدرة على التفاوض الحكيم، والبناء الثقافي العميق، يمتلك مفاتيح التأثير الحضاري… لا كفاتح، بل كملهم وموجّه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى