
بقلم: د. خالد السلامي
هل سبق أن أنهيت يومك وأنت تشعر بأنك كنت مشغولًا منذ الصباح، ومع ذلك لم تُنجز شيئًا ذا قيمة؟ تنظر إلى قائمة المهام الطويلة، فتكتشف أنك كنت في حركة دائمة دون تقدم حقيقي؟
هذا الإحساس مألوف ومُرهق، وغالبًا لا يرتبط بقلة الجهد، بل بكثرة الاتجاهات وتشعّب المهام.
في كتابه “الشيء الوحيد” (The One Thing)، يطرح غاري كيلر سؤالًا بسيطًا في شكله، لكنه عميق في أثره:
“ما هو الشيء الوحيد الذي، إن فعلته، سيجعل كل شيء آخر أسهل أو غير ضروري؟”
بهذا السؤال يبدأ كيلر رحلة الخروج من متاهة التشتت والانشغال الزائف نحو العمل المؤثر والموجّه. هذا الكتاب لا يُعنى بكثرة الإنجازات، بل بقيمتها. لا يدعوك إلى أن تعمل أكثر، بل أن تعمل أقل، ولكن بذكاء ووضوح.
التركيز كاستراتيجية لا كخيار
قبل أن يصبح مؤلفًا، كان غاري كيلر رائد أعمال ناجحًا في مجال العقارات، لكنه اكتشف أن تعدد المهام لا يعني بالضرورة إنجازًا حقيقيًا. ومع تراكم الالتزامات، أدرك أن المشكلة ليست في ضيق الوقت، بل في ضياع التركيز.
تجربته الشخصية قادته إلى صياغة فلسفة “الشيء الواحد”، التي تدعو إلى التركيز المنضبط على الأهم، وتقديمه على كل ما سواه.
الوهم الكبير: تعدد المهام
يحذر كيلر من الوهم الشائع بأن القيام بعدة مهام في آنٍ واحد يعني إنتاجية أعلى. في الواقع، كل مرة تغيّر فيها تركيزك، تخسر شيئًا من طاقتك وانسيابك الذهني. العقل لا يعمل بكفاءة أثناء القفز المستمر بين المهام.
سؤال واحد يغيّر قواعد اللعبة
كل يوم، وكل مهمة، وكل قرار، ينبغي أن يبدأ بسؤال محوري:
“ما هو الشيء الوحيد الذي إذا أنجزته الآن، سيجعل باقي المهام أسهل أو غير ضرورية؟”
الإجابة على هذا السؤال تعني أنك لا تتعامل مع المهام بشكل عشوائي، بل وفق تسلسل منطقي يُشبه تأثير أحجار الدومينو: مهمة صغيرة تؤدي إلى نتائج كبيرة على المدى البعيد.
النجاح… ثمرة تنظيم لا قوة إرادة
يرى كيلر أن التعويل المفرط على الإرادة الفردية قد يؤدي إلى الإرهاق، أما بناء بيئة داعمة (مثل جدول منتظم، مكان عمل هادئ، حدود واضحة في العلاقات) فهو ما يحمي تركيزك على المدى الطويل.
“نعم” واحدة تعني عشرات الـ”لا”
أن تختار ما هو مهم، يعني أن ترفض أشياء كثيرة “جيدة” لكنها ليست الأهم. النجاح لا يتحقق بتكديس المهام، بل بإتقان الأهم وترك الباقي. كل “لا” تقولها لما هو ثانوي، تُقرّبك من “نعم” واحدة لها وزن ومعنى.
من الفكرة إلى الممارسة: كيف تطبّق فلسفة كيلر؟
ابدأ يومك بسؤال الشيء الواحد.
احجز وقتًا ذهبيًا للتركيز التام دون مقاطعات.
قل “لا” بوضوح لما لا يخدم هدفك المحوري.
قسّم المشاريع الكبيرة إلى خطوات صغيرة متسلسلة.
حوّل تركيزك إلى عادة يومية.
صمّم بيئتك لتدعم الإنجاز، لا لتشتّتك.
سامح نفسك عند السقوط، وارجع للمسار.
لماذا هذا الكتاب ينجح؟
لأنه مركز مثل فكرته. لا يوجد حشو، كل فصل يخدم الرسالة.
بساطته تجعله قابلًا للتطبيق. لا فلسفة معقّدة، بل وضوح وعملية.
يتلاءم مع أي شخص، في أي مجال. لأنه يُخاطب العقلية لا الوظيفة.
يعالج أزمة العصر: التشتت. في عالم يمطرنا بالمهام، يمنحنا دليلًا نحو الوضوح.
خاتمة: الشيء الوحيد… البداية لكل شيء
وسط زحام الحياة وصخب المهام، هناك سؤال بسيط لكنه عميق:
ما هو الشيء الوحيد الذي، إن فعلته الآن، سيجعل كل شيء آخر أسهل أو غير ضروري؟
لا تبحث عن إنجاز كثير… بل عن إنجاز واعٍ. لا تملأ جدولك، بل رتّب أولوياتك. لأن النجاح لا يأتي من فعل كل شيء، بل من اختيار الشيء الصحيح، والتمسك به حتى النهاية.
ابدأ اليوم. لا تغيّر كل شيء دفعة واحدة. فقط…
اختر الشيء الوحيد.