الفنان التشكيلي سيف العامري لـ”هرمز نيوز” : حين يهمس الفن للروح بين تجريد الرؤية وصوفية التجلي

أجرى الحوار : سيلينا السعيد
في زوايا الفن التشكيلي العُماني ، يبرز اسم سيف العامري كأحد الرواد البارزين في مجال فن الحفر والطباعة اليدوية. لكنه ليس مجرد فنان تشكيلي ، بل هو صانع لرؤى تتجاوز التفاصيل ، محولًا الخشب والورق إلى لغة بصرية تسرد قصصًا تنبض بالتراث وبالوجدان الإنساني.
منذ بداياته ، كان العامري مفتونًا بالتباين بين الضوء والظل ، بين الأبيض والأسود. لم يكن هذا مجرد خيار جمالي ، بل كان بحثًا عميقًا عن جوهر الشكل بعيدًا عن بهرجة الألوان الزائدة. في أعماله ، تتحول الكتل والخطوط إلى إيقاعات نابضة بالحياة ، وفي تجريدها تنبض عُمان من أعالي جبالها الشاهقة إلى قاع بحارها العميقة : بخورها ، صمت جبالها ، رحابة أفقها ، وطيبة أهلها.
كانت رحلة سيف العامري بين الأبيض والأسود أشبه برحلة روحية ، حيث كان يرسم الليل بحثًا عن فجره ، ويتلمس أسرار التباين كما يتلمس المتصوف النور وسط العتمة. وعندما أضاف الألوان إلى أعماله ، لم تكن مجرد إضافات لونية ، بل تجليات جديدة للروح ، كأنما أدرك أن العشق الإلهي ليس نقيض العتمة ، بل هو انبثاقها في صورة أخرى.
في أعماله ، لا نجد أبنية ساكنة ، بل مدنًا تتنفس ، أبوابًا مواربة تنتظر من يفتحها ، ونوافذ تطل على ذكريات غير مكتملة. في أعماله ، لا تمثل المدن كـ”مطرح”، “السيب”، و”نزوى” مجرد أماكن ، بل هي مدن الروح ، حيث لكل حجر حكايته ، ولكل ظلٍّ حنين إلى الزمن الذي لم يمت بعد. هناك ، في المساحات البيضاء بين الخطوط ، يسكن الصمت الذي يحمل في طياته الكثير من الحكايات.
اليوم ، يعد سيف العامري من أبرز رواد الحفر والطباعة اليدوية في الخليج العربي ، حيث أسهم في نشر هذا الفن ونقل خبرته إلى جيل جديد من الفنانين. أعماله ليست مجرد لوحات ، بل بوابات إلى عوالم غير مرئية ، حيث يمتزج التراث بالحلم ، والواقع بالأسطورة.
اختار سيف أن يكون اللقاء في ركن هادئ من مسقط ، حيث تتلاقى الجبال مع البحر الممتد ، وحيث ينسج العامري عوالمه الخاصة. لا يرسم ما يُرى ، بل ما يُحَس. لوحاته ليست مجرد تكوينات لونية ، بل هي أدعية معلّقة في الهواء ، تُقرأ بالعين وتُرتّل في القلب ، وكأنه يرسم ليقول لنا كما قال الرومي : “ارحل عن الظاهرة ، وادخل في القلب ، فهناك تسكن الحقيقة”.
س: سألته، وهو يتأمل لوحة تغمرها ظلال الفحم والأحمر: ما الذي تبحث عنه؟
ج: أجاب كأنّه يحدث نفسه : “لستُ أبحث ، بل أُصغي … أترك اللون يُحدثني ، وأدع الخطوط تمشي وحدها نحو المجهول. في كل لوحة ، أحاول أن أرى نفسي لأول مرة : دون قيد ، دون صورة ، فقط نيّة ، محبة وحنين”.
جلال المعنى في غموض الشكل
س: يشبه سيف العامري في حضوره درويشًا خرج لتوّه من حلقة ذكر ، مبللًا بالبصيرة ، قلت ، وماذا بعد؟
ج: أكمل إجابته : “أنا لا أشرح لوحاتي ، لأن التفسير يُطفئ النور. كل من ينظر إليها ، يرى انعكاسه. كما قال التبريزي : ما تراه فيّ ليس أنا ، بل مرآتك أنت”.
س: سيف ، أنت أحد رواد فن الطباعة اليدوية والحفر في عُمان ، ماذا تمثل لك هذه الفنون؟
ج: أجاب لا أعتبر الخشبة مجرد وسيلة ، بل جسدًا يحمل روحي. في كل شق من اللوحة ، هناك حوار بيني وبين المادة التي أتعامل معها. الحفر والطباعة اليدوية ليست مجرد أدوات ، بل وسيلة للتعبير عن الروح والوجود. حين أبدأ العمل ، أشعر وكأنني أنحت نفسي داخل تلك المادة. هي ليست مجرد تقنية ، بل امتداد لذاتي ، وكأنني أكتب بالضوء والظل حكاية لم تروَ بعد.
س: كيف بدأت علاقتك بفن الحفر والطباعة اليدوية؟ وهل تأثرت بفن عُماني معين؟
ج: بدأت رحلتي منذ سنوات طويلة ، منجذبًا إلى تباين الضوء والظل ، بعيدًا عن بهرجة الألوان. لم يكن هذا اختيارًا جماليًا فحسب ، بل كان بحثًا عن جوهر الشكل. تأثير البيئة العُمانية حاضر في ذاكرتي البصرية ، وليس بالضرورة عبر استلهام مباشر ، لكنه يتجلى في روح الأعمال وفي العلاقة الحميمة بين المادة والفكرة. الجدران القديمة التي تشهد على مرور الزمن ، الزخارف التي تروي قصص الأجداد ، حتى الصمت الذي يغلف الصحاري والبحار ، كلها ألهمتني بصمتها أكثر مما تفعل الألوان الصاخبة.
س: رغم التجريد في أعمالك ، إلا أن عُمان حاضرة فيها بوضوح. كيف تعكسها في لوحاتك؟
ج: لا أسعى إلى تصوير المشهد العُماني بشكل تقريري ، بل إلى استشفاف روحه. البيوت التقليدية ، الأبواب الخشبية ، الأسواق القديمة والمراكب… كلها عناصر قد تظهر ، لكنها ليست الغاية ، بل وسيلة لاستحضار الذاكرة الجماعية. أحاول أن أجعل المشهد خفيفًا كصلاة فجر ، وحقيقيًا كلمسة يد على الخشب. لا أبحث عن إعادة تشكيل الواقع ، بل عن إعادة تفسيره ، بحيث يحمل كل تفصيل بصمة الروح التي تسكنه.
س: هل تحمل لوحاتك رسائل معينة ، أم أنها تطرح تساؤلات؟
ج: لا أرى لوحاتي كرسائل ، بل كدعوات للتأمل. الفن ليس إجابة جاهزة ، بل هو سؤال مفتوح. كل من ينظر إلى عملي يرى انعكاسه فيه ، كما قال التبريزي: “ما تراه فيَّ ليس أنا ، بل مرآتك أنت”. ربما لوحاتي لا تجيب ، لكنها توقظ الأسئلة النائمة ، تلك التي لم نكن نعلم بوجودها حتى وقفنا أمام العمل الفني.
س: التصوف حاضر بقوة في أعمالك ، كيف تترجم ذلك فنيًا؟
ج: التصوف ليس موضوعًا في أعمالي ، بل هو جوهر نهجي الفني. لا أبحث عن الجمال البصري فحسب ، بل عن الحقيقة الروحية في كل شيء حولنا. التجريد ليس غاية ، بل هو طريق إلى جوهر الأشياء ، كما أن الفن نافذة على ما وراء المرئي. أؤمن أن العمل الفني الجيد هو ذلك الذي يفتح أبواب الروح ، لا الذي يشرح نفسه.
س: في معرضك “تناغم”، كان هناك مزج بين الماضي والحاضر. كيف ترى علاقة الزمن بالفن؟
ج: الزمن في الفن ليس خطيًا ، بل هو متداخل. في كل صدع بجدار قديم ، هناك بصيص ضوء يوقظ الذاكرة. كما قال الرومي : “عندما تنكسر، لا تنسَ أن الضوء يدخل من الشقوق”. في لوحاتي ، هذا الضوء يسري عبر الشقوق التي تفتحها الألوان والخطوط. الماضي ليس شيئًا انتهى ، بل هو حاضر يتشكل بطرق جديدة.
س: كيف ترى الفن كحالة روحية؟
ج: كما يقال “لا تسأل أين الطريق ، بل كن الطريق”. الفن بالنسبة لي هو تأمل ، صلاة ، ورقصة بين الظل والنور. وكما قال شمس التبريزي : “الموسيقى ليست فيما يُسمع ، بل في ما يستيقظ في القلب عند سماعها”. في لوحاتي ، هناك موسيقى صامتة ، هناك خشوع وتأمل ، وهناك دعوة للحضور بكامل الوعي والروح.
س: في أحد معارضك، وصف أحد النقاد أعمالك قائلًا: “سيف العامري لا يُعيد رسم عُمان ، بل يعيد اكتشافها … يجعلها خفيفة كضوء الفجر، وحقيقية كلمسة يدٍ على الخشب.” فما هو سر استمراريتك؟
ج: أجاب بابتسامةٍ هادئة : الفن ليس مهنة ، بل أسلوب حياة. في كل مرة أبدأ لوحة جديدة ، أشعر وكأنني أتعلم من الصفر. أبحث عن الدهشة ، عن ذلك الإحساس الأول حين ترى شيئًا مألوفًا ولكن بروح جديدة.
س: وأخيرًا ، ما هي رسالتك الفنية؟
ج: أشار إلى لوحة معلقة كغيمة تسبح ، وهمس : “هذه ليست رسالة ، بل سؤال. الفن لا يجيب ، بل يوقظ الأسئلة النائمة فينا. في عالمي ، كل لون له صوت ، وكل فراغ له معنى. الأحمر هو الحنين ، الأزرق هو الغفران ، والذهبي هو أثر الخطوة على طريق لم يُسلك بعد”.
س: من الحفر على الورق إلى الحفر في الذاكرة البصرية للوطن ، امتدت يدك لتترك أثرها في التاريخ ، حين صممت شعار العيد الوطني الأربعين ، وحين وُضعت أعمالك على العملة النقدية العُمانية. هل تشرح لنا؟
ج: أجاب: لم يكن مجرد تصميم ، بل كان ختمًا روحيًا على لحظة عابرة ، نقشًا في قلب الزمن ، تمامًا كما تترك الكلمة أثرها في روح العاشق ، وكما يترك الضوء بصمته في العتمة. الفن كطريق إلى الحقيقة “ما تبحث عنه ، يبحث عنك”.
في الختام… والوصف يطول
“في الفن كما في العشق ، لا تُمسك الشيء ، بل تدعه يمرّ فيك”… هذا ما تعلمته من جلسة واحدة مع سيف العامري ، الذي لا يرسم ليُبهر ، بل ليُبصّر. وكأنه يرسم ليقول لنا – كما قال الرومي : “ارحل عن الظاهر، وادخل في القلب، فهناك تسكن الحقيقة”.