GreatOffer
تحقيقات

الورق والهوية : سيمياء الجنيه الفلسطيني في مواجهة الطمس

تحقيق : سيلينا السعيد

Advertisement GreatOffer

في عالمٍ عربيٍ يختبئ الزمان وراء غبارٍ وصمتٍ طويل ، تتناثر أوراقٌ صغيرة تحمل في طياتها ما يعادل كتبًا كاملة من الشهادات الحية. ورقٌ نقدي قد لا يُستخدم اليوم كسلعة تُباع وتشترى ، لكنه يُشترى لذاكرةٍ تسعى للثبات في وجدان الشعوب. ومن بين هذه الأوراق ، يبرز الجنيه الفلسطيني الذي لم يسقط مع الزمان.

لم يكن للجنيه الفلسطيني قيمته في ما يُصرف به فحسب ، بل في ما يُستعاد من خلاله. إنه ليس مجرد توقيع صادر عن بنك ، بل توقيع على حقبةٍ من الزمن ، على وطنٍ ، وعلى وجدانٍ جماعي لم ينكسر رغم محاولات الطمس المستمرة.

Advertisement

الجنيه

 

 

الجنيه الفلسطيني : بين الواقع والرمزية

في تصميم الجنيه الفلسطيني الذي أُصدر لأول مرة في عشرينيات القرن الماضي ، كان يتجاور ثلاث لغات : العربية، العبرية، والإنجليزية. هذا التجاور لم يكن مجرد تفاعل لغوي فرضه الانتداب البريطاني ، بل كان يحمل في طياته أكثر من مجرد تعبير لغوي. كانت هذه اللغات تُعبّر عن فلسطين ، التي وإن كانت تحت الاستعمار ، كانت تسمي نفسها بلغتها ، وتُثبت حضورها عبر الكلمات المكتوبة.

كلمات مثل “جنيه واحد فلسطيني – One Palestinian Pound – לירה ארץ־ישראלית אחת” (ليرة أرض إسرائيلية واحدة) على العملة كشفت عن حقيقة تاريخية : العبرية التي كُتبت بعناية على العملة لم تكن بريئة. بل كانت تحمل بذور الاستيلاء الرمزي وتثبيت اسم “أرض إسرائيل”، حتى قبل قيام الكيان.

الجنيه

 

الجنيه الفلسطيني كوثيقة تاريخية

لكن الجنيه الفلسطيني ، كوثيقة تاريخية ، لم يكن مجرد أداة للتبادل الاقتصادي؛ بل كان رمزًا للهوية الفلسطينية وللحظة وجود لم تندثر بعد سقوط الدولة. ومع اختفاء العملة الفلسطينية بعد النكبة ، جاء الجنيه الإسرائيلي ليحل محلها. ورغم التشابه في التصميم ، كان الاسم مختلفًا: “בנק לאומי לישראל” (بنك ليئومي لإسرائيل)، و”חמש לירות ישראליות” (خمس جنيهات إسرائيلية). ورغم فرض السلطة لوجودها عبر اللغة، فإن في الذاكرة الفلسطينية ظلّ هناك سطر لم يُمحَ: “هنا كانت فلسطين”.

في إحدى الوثائق العبرية، نقرأ:

“הארץ הזאת – היא מולדתו של העם היהודי, אך גם לבם של עמים אחרים פועם בה.” (هذه الأرض – هي موطن للشعب اليهودي، ولكن أيضًا قلوب شعوب أخرى تنبض فيها).

ربما دون قصد ، سلطت هذه العبارة الضوء على حقيقة تاريخية عميقة : أن الأرض لا تنتمي فقط إلى من يملك “طابوها”، بل أيضًا إلى من ينبض قلبه فيها.

الجنيه

الجنيه الفلسطيني : من السوق إلى الذاكرة

اليوم ، يُباع الجنيه الفلسطيني في المزادات كقطعة نادرة ، ولكن ما لا يُباع هو دلالته الرمزية. إنه ورقة حملت في حروفها الذاكرة بكل عراقتها ، ورفضت أن تستبدلها بأي خطاب بديل. تلك الورقة الصامتة ، التي كانت يومًا أداة تداول اقتصادي ، أصبحت الآن رمزًا من رموز الصمود والهوية.

في المقابل، جاءت كلمات نشيد “هاتيكفاه”، الذي أعلن نشيدًا وطنيًا لدولة إسرائيل، لتعبر عن حلمٍ آخر:

“עוֹד לֹא אָבְדָה תִּקְוָתֵנוּ…” (لم يضع بعدُ أملُنا…)

لكن الفلسطينيين لم يُردوا بهذا النشيد، بل بجنيهٍ فلسطيني. ورقة صغيرة، صامتة، لكنها ما زالت تنطق باسم الأرض، تحمل في طياتها صمودًا لا يزال حيًا.

الجنيه

الخاتمة

في النهاية ، ما يُطبع بالحبر قد يُمحى ، ولكن ما يُطبع باللغة يبقى ، وما يُطبع بالوجدان لا يسقط مع مرور الزمن. الجنيه الفلسطيني ليس مجرد قطعة نقدية، بل هو وثيقة حية لما كان، ورمزٌ لما سيظل حيًا في الذاكرة الجماعية الفلسطينية.

ملاحظة:

السيمياء أو السيميولوجيا (Sémiotique) هي العلم الذي يدرس العلامات. الكلمة مشتقة من اليونانية “Sémeion” التي تعني “العلامة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى