كراكوف .. حاضنة الحضارة ومدينة الملوك
كراكوف : د.جمال المجايدة
زرت مدينة كراكوف في بولندا الأسبوع الماضي وتجولت في شوارعها وساحاتها ومعالمها الجميلة واستمتعت بكل دقيقة امضيتها فيها , فهي فعلا مدينة التاريخ وحاضنة الحضارة وهي مدينة الملوك والترف الارستقراطي إبان عهد الملوك والأباطرة , لذلك ليس غريباً أن تكون كراكوف هي أول مدينة يتم تسجيلها في قائمة اليونيسكو للتراث الانساني بفضل ثرائها التاريخي والمعرفي وآثارها الخالدة على امتداد أكثر من الف عام .
كراكوف تعتبر احدى أهم عشرين مدينة تاريخية في العالم تحظى بعناية اليونيسكو ، لذلك فإن الاقبال الشديد لزيارتها من قبل السياح سنوياً إنما بسبب المزايا والخدمات وأيضا قلة التكاليف ، فضلاً عن قيمتها الأثرية والحضارية التي تجتذب الملايين سنويا.
قالت لنا المرشدة السياحية خلال جولة معها في المدينة القديمة أن مدينة كراكوف دخلت أول قائمة لمواقع التراث العالمي حسب تصنيف اليونسكو وذلك بفضل امتلاكها ثروة هائلة من المعالم التاريخية والمعمارية ، والتي من بينها “قلعة فافل”
” (Wawel Castle) و”الساحة الرئيسية” (Main Square) و”كنيسة القديسة ماري” (St. Mary’s Church) و”حي كازيميرز” (Kazimierz District). وتتمتع المدينة بتراث ثقافي جعلها موضع تقدير على مدى قرون.
لقد أصبحت كراكوف مركزًا أوروبيًا في تراث فنون الأطعمة والمأكولات الشهية. ففي عام 2019 ، حصلت مدينة كراكوف على لقب “العاصمة الأوروبية لفنون الطهي” من قِبل “الأكاديمية الأوروبية لفنون الطهي (European Academy of Gastronomy). كما تعد كراكوف المدينة التي تعيش حياة ثقافية كاملة. ففي كل عام ، تستضيف هذه المدينة ، التي تعد عاصمة منطقة “بولندا الصغرى” التاريخية ، ما يقرب من 100 من المهرجانات وغيرها من الفعاليات الدولية.
في اليوم الاول لزيارتنا نزلنا الى قلب المدينة النابض بالحركة ، الذي يعد أحد أجمل أماكن السياحة في كراكوف ، حيث أمضينا بعض الوقت في الساحة الرئيسية التي تعرف باسم «رينك كلوفني» وهي واحدة من أكبر الساحات في أوروبا.
ومن هذه الساحة تتفرع احدى الطرقات التي تؤدي الى سوق المدينة الرئيسي ، وهو عبارة عن بناية واسعة الاطراف بنيت في القرن الثالث عشر ، وتدعى ببناية “سوكنيتسة ” .
وهذا السوق التجاري متخصص ببيع انواع الملابس ، ويضم الى الآن اكشاكا صغيرة لبيع مختلف البضائع الأخرى. وفي الطابق الاول من هذه البناية يوجد الغاليري الفني ومعرض المتحف الوطني.
وللبناية برج مدهش يقف لوحده مستقلا وسط محيط كبير من الأرض ، لكن أقسام البناية بدت في حلتها القديمة فلم يطرأ على جدرانها أي ترميم منذ الاحتلال النمساوي لها أواخر القرن الماضي والى الآن.
وفي الموقع الجنوبي من الساحة تنتصب واحدة من البنايات القديمة التي لاتزال تحافظ على رونقها ومعمارها الفني ، وهي «القبة الرومانية» للقديس فوتيخ ، راعي الكنيسة التشيكية الذي حط رحاله في «كراكوف» في بداية القرن الحادي عشر ، حيث سيطر آنذاك على المدينة في غضون حربه الطاحنة على الوثنيين البروسيين.
اذن فان «رينك كلوفني» هو من ميادين كراكوف التي تُصوّر ثقافة هذه المدينة على أرض الواقع إذ أن تاريخ الميدان يعود إلى القرن الحادي عشر.
هذا الميدان الممتد على مساحة 37900 م 2، يعبره يوميا اكثر من مليون إنسان ويعج بتجارب وأنشطة مسليّة ، كما أنه هو مركز الوصل بين عدد من الشوارع المهمة التي مررنا بها ومن أشهرها براكا وسزيوسكا بالإضافة إلى جرودزكا.
ساحة الميدان التاريخي تمتلى بالحيوية والحركة ومن خلال التجوال فيه تعرفنا على جميع أرجاءه وما يشمله من معالم جديرة بالاستكشاف ، وأثناء التجوّل شاهدنا طيور الحمام التي تتجمع في المكان بمنظرها الرائع ، كما أن الميدان محاط ببعض المباني التاريخية التي أدهشتنا لرؤية فنونها المعمارية .
كما تنشر في الميدان العربات التي تجرّها الخيول في الساحة الرئيسية والتي تصحبُ الزائر في جولة للتعرّف على المكان بطريقة مختلفة.
اتاحت لنا زيارة الميدان توافُر بعض المنحوتات والتماثيل الموزعة في الأنحاء والتي سوف تحظى بمتعة كبيرة حين مشاهدتها ، فهُناك نصب آدم ميكيفيتش ، كنيسة سانت ماري بالإضافة إلى إيروس بنداتو.
كما لاحظنا أيضا أن هذا الميدان الأكبر في أوروبا يعتبر مكاناً يتمكّن فيه مُقدّمو العروض الحيّة ، من امتاع الزوّار بمواهبهم ، حيث سررنا برؤية بعض الهواة وهم يبرعون في تقديم عروضهم الموسيقية الرائعة.
الميدان الجميل أيضا محاط بالأشجار المعمرة كما تنشر على جنباته المئات من المطاعم والمقاهي في المكان لقضاء بعض الوقت هناك.
ويمكنني القول بأن الساحة الرئيسية في كراكوف هي القلب السحري للمدينة ، حيث يتشابك الماضي مع الحاضر. قاعة القماش والمنازل السكنية والمقاهي تخلق مناظر طبيعية فريدة من نوعها.
هناك في تلك المكان الجميل اكتشفت سحر السوق وجربت الأطباق التقليدية واستمتعت بمشاهدة فناني الشوارع. إنه مكان للاجتماعات والأحداث ينضح بالطاقة. لقد عشت لحظات لا تُنسى في ساحة السوق الرئيسية ، حيث يجتمع الماضي والحاضر في جو لا يُنسى.
لقد كانت لحظات لا تُنسى في ساحة السوق الرئيسية في كراكوف ، حيث يلتقي الماضي بالحاضر ويملأ السحر الأجواء. هذا هو المكان الذي ترك لدينا ليس فقط الذكريات جميلة ، ولكن أيضًا الرغبة في العودة واكتشاف المزيد من التاريخ والسحر لهذه المدينة الرائعة.
قاعة القماش هو مبنى مبدع يثير الإعجاب بسحره التاريخي وهو عنصر لا ينفصل عن بانوراما ساحة السوق الرئيسية. تتميز قاعة التسوق التاريخية هذه بتاريخ غني يعود إلى العصور الوسطى وهي رمز للتجارة واجتماعات التجار.
عندما تمر بقاعة القماش ، من المستحيل ألا تتوقف عن الإعجاب بجمالها. واجهاتهم القوطية المميزة ، المزينة بالتفاصيل والأشكال المنحوتة الغنية ، تثير الإعجاب وتوفر تجربة جمالية فريدة من نوعها.
يؤدي المدخل إلى كلوث هول إلى الداخل ، حيث ينتظرك جو سوق القرون الوسطى. تتجول في ممراتهم ، وتكتشف مجموعة متنوعة من الأكشاك مع الحرف اليدوية والقماش والمجوهرات والهدايا التذكارية. إنه المكان المثالي للعثور على هدايا أو تذكارات فريدة وأصلية من كراكوف.
قلعة فاويل بصراحة أصبت بالذهول وأنا ادخل الى قلب قلعة فاويل التي كانت لعدة قرون مكان إقامة ملوك بولندا وهي واحدة من أكبر القلاع في بولندا على الرغم انها ليست كبيرة مثل قلعة مالبورك التي أخذت لقب أكبر قلعة في العالم من خلال مساحة الأرض. استمتعت لمشاهدة المناظر الخلابة لقلعة فاويل ، سيرا على الأقدام على طول نهر فيستولاالرائع.
قلعة فاويل الملكية هي نقطة جذب غير عادية في كراكوف تأخذك في رحلة سحرية عبر التاريخ. تبرز جدرانه الضخمة الفخر والعظمة ، وهي مزينة بتفاصيل ولوحات جميلة. داخل القلعة سوف تكتشف الأعمال الفنية والمجوهرات التي لا تقدر بثمن والتي بقيت على مر القرون. إنه ليس مجرد مبنى ، ولكنه نقطة ربط روحية تربط الماضي بالحاضر.
لقد أتاحت لنا هذه الرحلة الفريدة برفقة المرشدة السياحية السفر عبر الزمن واكتشاف الأسرار غير العادية لقلعة فاويل الملكية حيث مررنا في المسارات التي سار عليها الملوك ذات مرة ، في ذلك المكان المهيب.
كما أن بلانتي في كراكوف هو القلب الأخضر للمدينة ، والذي يحيط بالمدينة القديمة مثل حلقة واقية. تعد هذه المتنزهات والأزقة الساحرة مكانًا رائعًا للاسترخاء والاستراحة من صخب المدينة.
عندما تمشي في المزارع ، تفتح أمامك منظر طبيعي جميل ، حيث تخلق الأشجار والزهور والمروج تركيبة متناغمة. يمكنك المشي في ظلال أشجار البلوط القديمة ، أو الاستمتاع بالزهور الملونة أو مجرد الجلوس على مقعد ومشاهدة الأشخاص المارة
لقد مكنني التجول في المدينة القديمة والمشي عبر الطريق الملكي ، والذي كان مسار تتويج الملوك البولنديين ويبدأ الطريق في الطرف الشمالي من البلدة القديمة في كنيسة سانت فلوريان ، ويذهب إلى باربيكان خلال بوابة سانت فلوريان ، على التوالى أسفل فلوريانسكا ، وهي الساحة الرئيسية .
فيستولا بوليفاردز تعد Vistula Boulevards في كراكوف واحة من السلام والجمال ، حيث تتشابك الطبيعة والتاريخ بشكل متناغم. على طول نهر فيستولا الخلاب توجد متنزهات ساحرة توفر مكانًا مثاليًا للاسترخاء والتواصل مع الطبيعة.
أثناء التنزه على طول الطريق ، استمتعت بإطلالة خلابة على النهر والمناظر الطبيعية المحيطة. تنعكس غروب الشمس في المياه والحدائق الخضراء والمناظر البانورامية لالتقاط الأنفاس في كراكوف مما يخلق انطباعًا لا يُنسى.
بولينا كراكوفيسكي منطقة خضراء شاسعة تعد واحدة من أهم الأماكن الترفيهية في كراكوف. تقع بالقرب من وسط المدينة ، وتجذب Błonia كل من السكان والسياح ، وتوفر واحة من الهدوء وجمال الطبيعة.
عندما تعبر بوابات Błonia ، تدخل مروجًا فسيحة وسلسة تمتد على مساحة واسعة. إنه مكان مثالي للمشي والنزهات والجري والتواصل الاجتماعي. تعد Błonia أيضًا مكانًا مهمًا لعشاق الرياضة.
وتاريخياً “كراكوف” ، تعتبر واحدة من أهم المدن الأوروبية القديمة ، وكانت تدعى بمدينة «الملوك» ، حيث أن معظم ملوك بولندا القدماء قد انطلقوا منها لتوسيع ممالكهم السولافية ، حتى جاء القديس ميشيل الأول ، الذي يعتبر الموحد الاول للقبائل السولافية في جنوب وشمال بولندا ، فوضع أسس الدولة البولندية ، وبفضل زوجته التي يعود أصلها الى سلالة حكام التشيك وبوهيميا الذين أطلق عليهم لقب «الصناع» اتخذت بولندا لنفسها العقيدة المسيحية وارتفع رصيد «كراكوف» ، حينما قام القديس كازمير الأول باعلانها عاصمة للبلاد عام 1764.
وفي القرن الرابع عشر اصبحت «كراكوف» مركزا حضاريا مشعا بعد أن حكم البلاد الملك كازمير الكبير الذي اهتم بالثقافة والتراث والفنون عموما ، وأسس عام 1364 أول مدرسة عليا هناك ، هي «اكاديمية كراكوف» التي تعتبر اقدم الجامعات في وسط اوروبا ، وفيها القى العالم الشهيد ميكولاش كوبينيك (1473 – 1543) محاضراته في العلوم الفيزيائية ، وكان صاحب نظرية الهيليوم الذي يحيط بالكرة الارضية.
وتبلغ مساحة كراكوف حاليا نحو 325 كيلومترا مربعا ، ويعيش فيها أكثر من مليون نسمة ، وهي في مقاييس السعة تعتبر ثالث أكبر المدن البولندية ، وتمتاز بطابعها التراثي القديم وانتشار الآثار فيها التي تمثل كافة المراحل بما في ذلك المرحلة الرومانية ، وهي قد نجت من التدمير في الحرب العالمية الثانية ، فاحتفظت برونقها وآثارها الحضارية.
وفي كراكوف تنتشر العديد من البنايات القديمة والقلاع الاثرية العالية ، وتلف اراضيها من كل جانب الغابات الكثيفة والمزارع الخضراء والمنتزهات الفارهة والشلالات المائية ، ويتسلل اليها نهر «مينسلا» الذي يجري عبر ثلاث جهات محاذيا للجبال التي تتمازج على قممها امواجا من الالوان الطبيعية الباهرة.
وفي ختام جولتنا في «كراكوف» لاحظت أنها مدينة تكثر فيها الأزقة القديمة والأحياء المتناثرة في كل اتجاه والبيوت التي تصطف على جوانب الطرقات وهي تتنشق عبق الماضي البعيد ، وتبدو من سقوفها القرميدية الحمراء وجدرانها البيضاء وطرازها القوطي وكأنها تعيش في دوامة التاريخ الماضي ولا تريد الخروج منه ، لكنها تبدو أكثر جاذبية وروعة ، لأن هذه المدينة التي تملك سحر الزمن القديم ، بقيت مركزا ثقافيا وحضاريا بارزا ، فضلا عن كونها تحاكي في الوقت الراهن بقية المدن التجارية والصناعية الاخرى ، ففيها تتقاطع طرق المواصلات الاوروبية ، حيث توجد فيها محطات السكك الحديدية والباصات التي تربط المدن الاوروبية الكبيرة فيما بينها.
وفي مسار التاريخ أطلق على كراكوف عدة أسماء من بينها اسم «روما البولندية»، حيث كان يوجد فيها 106 كنائس و18 ضريحا للقديسين.
وتعتبر كنيسة «السيدة مريم» واحدة من أهم هذه الكنائس القوطية التي مازالت قائمة الى الآن. وكان التتار الذين احتلوا المدينة عام 1222 بقيادة حفيد جنكيزخان، باتوخان، قد استخدموا أحد اجراس برج الكنيسة للتعبئة العسكرية، حيث كانوا يقومون بدق الجرس كل ساعة لايصال الاشارة الى بواخرهم الراسية في عباب البحر، ومنذ ذلك الحين انتقلت هذه العادة الى الكنائس الاخرى واصبحت تقليدا عاما يتم كل يوم احد.
وتوجد في طرف الساحة كنيسة أخرى هي كنيسة القديس «فرانتيشك» التي تحتوي على لقى وجداريات فنية رائعة الجمال ، ومن بينها أعمال الرسام الشهير ويسبيانسكي.