“وَلَد جَرَيْدَة”
بقلم : د. صالح الفهدي
كُنتُ أَظنُّهُ مجرَّدَ أُسطورة لِمَا سمعتهُ من حكاياتٍ وقصصٍ عن شجاعته الفذَّة ، وشهامتهِ المشهورة ، حتى التقيتُ بحفيدهِ الصديق أحمد بن ياسر التوبي الذي تحدَّث عَرَضًا عنه ، فأوقفتهُ عند اللَّقبْ ، وكأنَّما وقفتُ أَمامَ بيتٍ فخم مكتنزٍ بالأسرارِ ، والحكايات ، والمواقفِ التي يفترضُ أن نقفَ عندها وننهل بقدرِ ما نستطيع ، لنضيفَ إلى ما سمعناهُ قديمًا عن بطولاته النادرة ، وشخصيَّتهِ التي تتَّسم بالبسالة ، والجسارة ، والبأس ، يقول عنه حفيده الأكاديمي والباحث د. معمَّر التوبي : “الشيخ علي بن حمد التوبي صاحب بيت العين الذي يعرفه العُمانيون بـ”ود جريدة”، وكذلك لم يجدِ البريطانيون بدًّا من ذكر لقبه (أو كُنْيَته) الذي اشتهرَ به في كل ذكرٍ وإشارة له في وثائقهم السرية لتكون شاهدة على بطولاته وشجاعته ، ولا عجب فهو أحد أهم أركان دولة الإمام سالم بن راشد الخروصي وقادتها”.
وإلى اليوم لا يزال العمانيون يتمثَّلون بـ”وَلَدْ جْرَيْدَة” في مقارناتهم ، أو مقارباتهم ، أو مقاييسهم ، أو أحكامهم فهو الشخصية الفذَّة التي جمعت الخصال الأصيلة التي يجدُ فيها العماني هُويته الأصيلة بما يكتنفها من سِماتٍ متميِّزةٍ ، وقيمٍ متفرِّدة.
لقد حفظتُ قصصًا عن “وَلَد جَرَيْدَة” ارتقتْ بهِ إلى مرتبةِ الأُسطورة ، لكثرة ما يتمثَّل به العُمانيون في شجاعته ، ورجولته ، وعزيمته ، فهو قائدٌ وصف بأنه “أحد أهم أركان دولة الإِمام سالم بن راشد الخروصي وقادتها” فضلًا عن كرمه ، وسخاء يده ، ورغم ذلك فهو يتَّسمُ بالتواضع ، ولينِ الجانب ، مبتعدًا عن تفخيم الأنا ، والتباهي بقوته وشجاعته أمام الآخرين ، تاركًا للمواقف أن تُبينَ مهاراته ، وتُظهر سِماتهِ.
كما وصفته حفيدته الروائية شريفة التوبية بقولها : “ولد جريدة .. شخصية حقيقية وليس أسطورة كما يعتقد البعض ، واسمه علي بن حمد بن عامر التوبي ، وكما يقال إنه ولد سنة 1880م على وجه التقريب ، واشتهر هذا الرجل في زمانه بالشجاعة والجرأة والإقدام”.
وإذا كانت حفيدته الروائية تستشهد في مستهلِّ إحدى رواياتها ببيت الشعر الشعبي المنتمي لفنِّ العازي والقائل :
“قُم بْنْ جْريدة مْن المماتْ// واحْيي عُصورًا ماضياتْ”
فإِننا نتوقَّفُ هُنا عند هذا النداء أو الطلب الذي نجدهُ سببًا لكتابةِ هذه المقالة عن “ولدِ جريده” لما اتَّسمتْ شخصيته من قيمٍ أصيلة يجدُ فيها الإِنسان العُماني نفسه ، ولهذا جعلها في موضعِ التمثُّل ، ومرتبةِ المقارنةِ ، ومنزلة المقاربة.
فالإنسان العُماني قد نشأ على قيمٍ أصيلةٍ صنعت له شخصيته الصلبة بما فيها من سمتٍ ، ووقار ، وهيبةٍ ، وشجاعةٍ ، وإقدامٍ ، وشدَّةٍ ، وتماسكٍ في وجهِ المحنِ والمعضلات ، وصبرٍ على البلاء ، وجسارةٍ في تحمُّل المسؤوليات ، وجرأةٍ في الاضطلاعِ بالواجب ، ونبذ الخَوَرِ ، والخمول ، والتكاسل الذي يراهُ من خوارمِ الرجولةِ ، وإذا شئنا أن نجمع هذه الفضائل كلَّها في قيمة فإننا نقول إنها “المروءة” التي تعرَّف بأنَّها :”استعمال كل خُلقٍ حسنٍ ، واجتناب كل خُلقٍ قبيح” وقيل عنها : “المروءةُ اسمٌ جامعٌ للمحاسن كلِّها”.
هذا هو جوهر الإنسان العُماني ، وهذه هي أصالته ، فهو نابذٌ لكلِّ صفةٍ لا تضيفُ إلى شخصيتهِ شدَّةً ، وحزمًا ، وكارهًا لكلِّ قيمةٍ لا تمنح نفسهُ معنى الرجولةِ ، ونافرًا من كلِّ مزيَّةٍ لا تُنمي إليه خصالَ الكرامة ، والإباءِ ، والعزَّة.
وإذا كنَّا نرى بعض ما يشذُّ من مشاهدَ ، ونماذجَ ، ومواقفَ تصدرُ من البعضِ ولا تتوافقُ مع الشخصية التاريخية الأصيلة للإنسان العُماني فذاك شذوذٌ عن القاعدة ، وانحرافٌ عن السيرةِ ، وانعطافٌ عن الذات العُمانية العريقة.
يتمثَّل العُماني بـ “ود جريدة” وأمثالهِ لأنه ينتمي لهذا النموذج الأصيل من الشخصيات ، ولأنه يستخفُّ من كلِّ متميِّعٍ ، رخوٍ ، متلاينٍ في لباسهِ ، وكلامه ، وفعالهِ، وجلوسه ِ، ومشْيه ، وصوتهِ ، وأسلوبِ حياته ، وكل ما يأتي به ، وهو لا يطيقُ صاحبُ الشخصية الضعيفة ، المبالغِ في ليْنِهِ ، المفرطِ في تذلِّلهِ ، المتجاوزِ حدود الأدبِ والتهذيب ، المتعدِّي على قِيم الحياءِ والحشمة.
هذا هو العُماني الأصيل بشرفهِ الأصيل ، وأصلهِ النبيل ، ومَحتدهِ الجليل ، ولهذا ليس بغريبٍ عليهِ أن يتمثَّل بـ”ولد جريدة” وكلَّ شهمٍ ، أصيلٍ ، نجيب لأنه يرى نفسه فيهم.