هل تُبنى الدولة بالرايات والخرائط .. أم بكرامة الإنسان؟

بقلم: سامر شعلان
هل يكفي أن يجتمع مجموعة من الأفراد على رقعة جغرافية ويُعلنوا استقلالهم كي تتكوّن دولة؟ أم أن مفهوم الدولة أعمق من مجرد إعلان رمزي أو طموح جماعي؟
هذا التساؤل لم يعد ترفًا نظريًا في الفلسفة السياسية، بل بات سؤالًا وجوديًا في عالم تتكاثر فيه الكيانات المتنازعة، وتتفاقم النزعات الانفصالية، وتتشكل على هامشه “أشباه الدول” التي تحاول أن تكون دولاً، لكنها تفتقر إلى جوهر الدولة الحقيقية.
الشكل القانوني لا يكفي: الدولة فعل لا ادعاء
وفق الرؤية الكلاسيكية، تقوم الدولة على ثلاثة أركان أساسية: الشعب، الأرض، والسلطة الحاكمة.
إلا أن الخبرة التاريخية والسياسية أثبتت أن هذه الشروط، رغم ضرورتها، لم تعد كافية وحدها. فقد غدت عناصر مثل الاعتراف الدولي، القدرة على فرض السيطرة الفعلية على الإقليم، وتقديم الخدمات العامة بشكل منتظم من المقومات الحاسمة لقيام الدولة بمعناها العصري.
كيانات مثل ترانسنيستريا، أرض الصومال، أو جمهورية لوغانسك، تُجسِّد هذا الإشكال. فهي تملك هياكل إدارية، وأحيانًا مؤسسات أمنية وقضائية، لكنها تفتقر إلى الاعتراف الدولي وتعاني من هشاشة في البنية السيادية، فتبدو أقرب إلى “كيان وظيفي معلق” منها إلى دولة ذات سيادة متكاملة.
من يمنح “الصفة”؟ الأمم المتحدة أم الشعوب؟
هل الاعتراف الدولي كافٍ لصناعة دولة؟ الواقع يشي بعكس ذلك.
فثمة دول معترف بها رسميًا، لكنها عاجزة عن أداء وظائفها الأساسية: الأمن، العدالة، الصحة، والتعليم. وفي المقابل، هناك كيانات غير معترف بها، لكنها تؤدي تلك الوظائف بكفاءة وتستند إلى ثقة سكانها، وربما تُقارن في فاعليتها ببعض الدول “المعترف بها”.
هنا تبرز أهمية الدولة الوظيفية — الدولة كأداة تخدم الإنسان، لا كيانًا مقدسًا بحد ذاته. فالسؤال الجوهري:
هل يشعر المواطن بالأمان؟
هل يجد الدواء والتعليم؟
هل تحمي الدولة كرامته وحقوقه؟
إن تحققت هذه الشروط، ربما يحق للناس أن يعترفوا بما يُنكره العالم.
السيادة ليست سلعة سياسية
في عالم يتأرجح على كف التوازنات الدولية، تبدو السيادة أحيانًا كأنها سلعة تُباع وتُشترى، أو شارة تُمنح وتُسحب حسب تقاطع المصالح.
لكن السيادة الحقيقية لا تُمنح من الخارج، بل تنبع من الداخل — من قدرة الدولة على أن تكون مسؤولة عن حياة مواطنيها، وعلى أن تحميهم دون ارتهان، وعلى أن تفرض القانون بالثقة لا بالإكراه.
من هنا، يطلّ السؤال الأعمق:
هل الدولة غاية في ذاتها، أم وسيلة لخدمة الإنسان؟
وإذا كانت وسيلة، فهل يجوز استمرارها لمجرد أنها قائمة شكلاً، بينما تفشل في أداء أي من وظائفها الفعلية؟
ماذا عن سوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن والسودان؟
في هذا السياق، تبرز دول كـسوريا، لبنان، العراق، ليبيا، اليمن، والسودان كنماذج معقدة لدول قائمة من حيث الشكل، لكنها تعاني من تآكل السيادة وتشظي المؤسسات، وغالبًا ما تكون رهينة للصراعات الخارجية، أو منقسمة بين سلطات موازية، أو غارقة في الفساد وانعدام الخدمات.
في سوريا، الدولة ما تزال قائمة اسميًا، لكن أكثر من نصف الجغرافيا تحت سيطرة قوى أجنبية أو محلية متنازعة، والخدمات الأساسية منهارة في كثير من المناطق.
أما لبنان، فقد تحوّل إلى نموذج للدولة المشلولة بفعل المحاصصة الطائفية، حيث لا سلطة قادرة على ضبط الانهيار الاقتصادي أو تلبية أبسط متطلبات العيش الكريم.
في العراق، تُنذر الميليشيات الموازية وتضارب الولاءات بانقسام دائم، على الرغم من امتلاك الدولة مؤسسات رسمية.
ليبيا تمزقها الصراعات منذ سنوات، بدولتين متوازيتين وجيوش متعددة، بينما المواطن في المنتصف بلا ضمانات ولا أفق واضح.
في اليمن، تتنازع الشرعيات، وتتمزق الدولة بين جماعات مسلحة، وسط مأساة إنسانية غير مسبوقة.
أما السودان، فرغم محاولات الانتقال، فالصراع المسلح الداخلي وغياب الاستقرار السياسي جعلا من الدولة ساحة حرب أكثر منها كيانًا وطنيًا متماسكًا.
هذه النماذج تكشف أننا قد نعيش في دول “قائمة على الورق”، لكنها منهارة فعليًا من الداخل، حيث لا أمن، ولا عدالة، ولا كرامة إنسانية.
وماذا عن فلسطين المكلومة؟
وفي قلب هذا المشهد، تقف فلسطين بوصفها شاهدًا دامغًا على مفارقة الدولة واللادولة، والحق والباطل.
فهل يمكن اعتبار كيانٍ يستند في وجوده على نفي الآخر، ويقوم على الاحتلال والاقتلاع والتطهير، دولةً حقيقية؟
الكيان المدعو “إسرائيل”، وإن امتلك مؤسسات رسمية، واقتصادًا متماسكًا، واعترافًا دوليًا واسعًا، إلا أنه يفتقر إلى أبسط شروط الشرعية الأخلاقية والإنسانية.
إذ كيف لدولة أن تنهض على أنقاض شعبٍ، وتجعل من سياسات الحصار والقتل والقمع مبررًا لبقائها، وتستبيح القانون الدولي والضمير العالمي بلا رادع؟
إن شرعية الدول لا تُقاس فقط بالخرائط والأعلام، بل بقدرتها على احترام الكرامة الإنسانية، وحماية حياة الإنسان، لا سحقها.
وبهذا المعنى، فإن كيانًا يُنكر وجود الفلسطيني، ويُجرّف أرضه، ويُجرّمه في وجوده ومقاومته، لا يملك سوى شرعية زائفة، حتى وإن رفرفت راياته في المحافل، ووقّعت معه الأمم اتفاقات لا تُلغي بشاعة الواقع على الأرض.
الدولة التي تُشيَّد على الظلم لا تملك مستقبلًا، وإن طال أمدها. فالتاريخ لا يُنصف القوّة بل يُنصف الحق، وإن تأخر.
خاتمة: الدولة وسيلة لا صنم
ليست كل راية مرفوعة تعني بالضرورة قيام دولة. فالدولة مشروع إنساني قبل أن تكون مشروعًا سياسيًا.
تقوم على الكرامة، المسؤولية، والشرعية، لا على الشعارات الفارغة والطقوس الشكلية.
في عالم تتآكل فيه مفاهيم السيادة التقليدية، ويتسارع فيه التداخل بين الدولة وصورتها الكرتونية، تظل كرامة الإنسان هي البوصلة الوحيدة القادرة على تمييز الدولة الحقيقية من الزائفة.