
بقلم: محمد العريمي
منذ بواكير النهضة العُمانية الحديثة، شكّل مشروع المشاركة الشعبية أحد أعمدة بناء الدولة العُمانية التي أرساها السلطان الراحل قابوس بن سعيد – طيّب الله ثراه – في مسارٍ متدرّج ومتّزن راعى خصوصية المجتمع العُماني وتكوينه التاريخي والثقافي والاجتماعي.
فمع كل مرحلة من مراحل التطور الوطني، كانت مساحات المشاركة تتسع خطوةً بعد أخرى، بدءًا من مجالس الزراعة والأسماك، مرورًا بـ المجلس الاستشاري، وصولًا إلى مجلس الشورى ثم مجلس عُمان، في صيغةٍ تمثيلية اعتُبرت في زمانها متقدمة ومناسبة للواقع المحلي.
لقد كان ذلك الحراك السياسي والاجتماعي يمثل جناحًا أساسيًا في معادلة النهضة، وهو ما أكّده السلطان الراحل حين جمعنا في مجلسه بولاية صحار قبل وفاته بأشهر قليلة، مبيّنًا أن مسيرة الدولة تقوم على جناحين متوازيين: بناء الإنسان وتوسيع دائرة المشاركة من جهة، وبناء الدولة الحديثة واقتصادها من جهة أخرى.
لكن المتأمل في المشهد الراهن يلحظ أن الاهتمام الأكبر خلال السنوات الخمس الماضية في العهد المتجدد انصبّ على الملفات الاقتصادية والاستثمارية والمالية، وهو أمر مفهوم ومشروع في ضوء التحديات التي فرضتها التحولات الإقليمية والعالمية، وما تطلبته رؤية عُمان 2040 من إعادة هيكلة شاملة للاقتصاد والإدارة العامة.
غير أن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم في هذا المنعطف الحساس هو:
هل يمكن لبلادنا أن تطير بجناحٍ واحد؟
أي هل يمكن لمشروع الدولة الحديثة الذي يتبناه جلالة السلطان المعظم – ويحلم به كل عُماني – أن يواصل التحليق بالاعتماد على البعد الاقتصادي وحده دون أن يوازيه تفعيل المشاركة الشعبية وتوسيع فضاء الحوار الوطني الجاد؟
تُشير التجارب التاريخية والدراسات السياسية إلى أن الاقتصاد وحده – مهما بلغ نجاحه – لا يصنع استقرارًا طويل الأمد، فالنمو الحقيقي يحتاج إلى بيئة سياسية ومجتمعية تسمح بالمشاركة، وتُشرك المواطن في صناعة القرار لا في تنفيذ نتائجه فقط.
فكل ازدهار اقتصادي غير مسنود بوعي شعبي ومشاركة حقيقية يظل هشًّا، قابلاً للاهتزاز بل والانكسار عند أول أزمة.
إن الدولة التي تسعى إلى استدامة النهضة تحتاج إلى توازن بين جناحيها:
جناح اقتصادي يُعزّز الكفاءة والاستثمار والتنمية،
وجناح سياسي ومجتمعي يُعمّق الثقة ويمنح الناس مساحة للتعبير والمشاركة.
لقد أدرك السلطان قابوس – رحمه الله – هذه المعادلة بوعيٍ مبكر، فجعل من مجلس الشورى أكثر من مجرد إطار استشاري، بل مدرسة سياسية ومجتمعية تُراكم خبرة المشاركة الوطنية تدريجيًا.
واليوم، ومع ما تحقق من منجزات نوعية في الاقتصاد والإدارة في عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله ورعاه – فإن المرحلة المقبلة تستدعي إعادة تفعيل الجناح الآخر، عبر تطوير أدوات المشاركة وتعزيز حضور المجتمع في صياغة السياسات العامة، بما يواكب التحولات العميقة التي تشهدها السلطنة والمنطقة.
وهنا، تبرز مسؤولية رجلين لهما مكانتهما وخبرتهما في توازن مسار الدولة:
صاحب السمو السيد فهد بن محمود آل سعيد نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء، ومعالي السيد حمود بن فيصل البوسعيدي وزير الداخلية.
فهما الأقرب إلى نبض الحياة السياسية والإدارية، والأقدر على دعم جلالة السلطان في استكمال مسيرة المشاركة الوطنية وتفعيل المؤسسات التي تجسّد صوت المواطن وشراكته في التنمية.
إن الثقة السامية التي أولاها جلالته لسموه ومعاليه تضع على عاتقهما مسؤولية مضاعفة في هذا المسار، خدمةً لعُمان التي نحبها جميعًا، لتبقى متوازنة بجناحيها: جناح التنمية الاقتصادية الذي يقوده جلالته باقتدار، وجناح المشاركة الوطنية الواعية.
ولعل من المناسب في هذا السياق إعادة النظر في آليات الحوار الوطني، وفي دور مجلس الشورى ومجلس الدولة ومجلس عُمان بمجموعها، بما يُعيد إليها حيويتها ويجعلها أكثر التصاقًا بالمجتمع، وأشد تأثيرًا في صناعة القرار.
فهذه المؤسسات لم تُنشأ للزينة أو الشكل، بل لتكون الجسر الذي يربط بين الحكومة والمواطن.
إن الحفاظ على توازن المسار الوطني ليس مسؤولية القيادة وحدها، بل واجب جماعي تشترك فيه مؤسسات الدولة والنخب والمجتمع، كي يبقى الوطن قادرًا على التحليق بثباتٍ وأمان، بجناحين متكاملين لا بجناحٍ واحد مهما بلغت قوته.

محمد العريمي
كاتب وباحث في الشؤون السياسية



