GreatOffer
آراء

هل أنا من الشعب السامي؟ رحلة في ذاكرة اللغة والأرض

بقلم: سيلينا السعيد

Advertisement GreatOffer

في الصباحات التي يندمج فيها الضباب مع القرميد الأحمر، أسمع الأرض تهمس بلغات منقرضة، تناديني بأسماء قديمة نسيت نطقها، لكنها لم تنسَ وجهي. كلما أمعنت النظر في جذوري، تشعّبت أمامي أسماء غريبة لا أعرف إن كنت أنتمي إليها، أم أنها هي التي تنتمي إليّ.

“هل أنا من الشعب السامي؟”

Advertisement

سؤالٌ قد يبدو بسيطًا، لكنه يحمل في طياته مفاتيح التاريخ، وأصفاد الحاضر.

عندما نتحدث عن “السامية”، نحن لا نتحدث فقط عن أصلٍ بيولوجي أو سلالةٍ عرقية، بل عن فسيفساء من الشعوب التي سكنت الشرق القديم، وتحدثت بلغاتٍ تحمل في جذرها تشابهًا، وتوحدًا في الروح.

السامي

في بلاد الشام، كانت السامية تنبض على ألسنة الكنعانيين في فلسطين، والآراميين في سوريا، والعموريين الذين مرّوا من بابل إلى دمشق، والنبطيين الذين وشموا حجارة البتراء، والسريان الذين صلّوا في كنائس الرُها وأفاميا. كل هؤلاء تحدثوا بلغات تنتمي إلى الشجرة السامية: الأكادية، الأوغاريتية، الكنعانية، الآرامية، الفينيقية، العبرية، والعربية التي ما زالت نابضة حتى اليوم.

“𐎓𐎔𐎎𐎘” (šlm lkm) – “سلام لكم”، هكذا كُتبت التحية في أوغاريت منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وما زلنا نقولها اليوم: “سلام”، “شالوم”، “شلما”.

في لهجتي الفلسطينية، أسمع بقايا من لغاتٍ انقرضت، لكنها لا تزال تتردّد في الحكايات. في اسم “بيت لحم”، أسمع “بَيت لَحمو” – إله الخصب عند الكنعانيين. وفي “عكا”، أسمع هدير السفن الفينيقية. وفي “يبوس”، الاسم القديم للقدس، أرى الطقوس التي سبقت كل نزاع.

ولأن اللغة هي ذاكرة الشعوب، حملت لنا الأرض شواهد لا تموت:

السامي

من ألواح أوغاريت الطينية التي دونت أول أبجدية في التاريخ في شمال سوريا، إلى مخطوطات آرامية منسوجة بالحبر والقداسة، وإلى الرقوق العبرية المكتوبة بخطٍ قديم لا يزال يروي أساطير شعب ووجود. كل هذه المخطوطات تنتمي لعائلة لغوية واحدة، وتنطق بحقيقة واحدة: أن اللسان أقوى من السيف، وأن الحرف أقدم من الحدود.

لكن السامية تحوّلت من انتماء ثقافي مشترك إلى رايةٍ سياسية تُرفع لتبرير الاحتلال، وتُطوى حين نتحدث عن الحق الفلسطيني. فمنذ بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، حاول الخطاب الصهيوني اختزال “السامية” بشعبٍ واحد، ولغة واحدة، وادّعاءٍ بالحقّ الموروث على أرضٍ لم تكن يومًا خالية. لكن التاريخ لا يُختزل… بل يُروى.

أنا ابنة الجليل، أتكلم العربية التي حملت شعلة الساميات في العصر الحديث، أكتب بها، وأحلم بها، وأتعبد بها. لكنني حين أقرأ في الكتب القديمة، أجد لغات تشبهني:

“ܪܚܡܐ” (رَحما) بالسريانية تعني “رحمة”.

“إيل” في العبرية القديمة تعني “الله”.

“𒀀𒄿𒈪” (a-i-mi) في الأكادية تشبه همسة طفل لأمه: “أُمي”.

السامي

السامية فيّ ليست مفهومًا مغلقًا، بل طيفًا من الذاكرة، لا يعترف بالحدود.

أنا كنعانية حين أزرع القمح في تراب صفد.

أنا آرامية حين أستمع إلى الناي في بيوت حلب القديمة.

أنا عربية حين أنطق: “يا الله”، وأجدها ذاتها في فم الأوغاريتي الذي دعا “إيل”.

أنا سامية لا لأن أحدًا منحني هذا اللقب، بل لأن لغتي منحته لكل من عبر هنا.

فهل أنا من الشعب السامي؟

نعم…

لأني من شعبٍ يؤمن أن اللغة ذاكرة.

وأن الأرض تُورث بالحب، لا بالهجرة.

وأن من قال “سلام” قبل آلاف السنين…

ما زال صدى صوته يعيش… في لُغتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى