آراء

هشاشة الضوء.. سرّ الجمال في لحظته العابرة

بقلم: د. خالد السلامي

Advertisement

الضوء حين يولد لا يعدنا بالخلود. إنه ومضة عابرة، شعاع يتسلل ثم يتلاشى، تاركًا أثرًا يبقى عالقًا في الذاكرة. قد نظنه رمزًا للقوة، لكنه في جوهره هشّ، ينكسر عند أول جدار، ينطفئ مع أول نفخة ريح، ويغيب كل مساء حين يبتلع الأفق غروب الشمس. ومع ذلك، نظل نتعلق به، نبحث عنه في ليلنا ونهارنا، نعيد إشعاله كلما خبا، وكأننا ندرك سرّ هشاشته ونصرّ على ملاحقته.

قيمة الهشاشة

Advertisement

ليست الهشاشة عيبًا في الضوء، بل سرّ معناه. فلو كان أبديًا، لفقدنا الإحساس بقيمته. إننا نرى جماله في لحظة الشروق لأنه سيمضي، ونغني له عند المغيب لأنه يتركنا لظلام لا مهرب منه. في هذه الثنائية يكمن الدرس: أن الأشياء الثمينة قصيرة العمر، وأن النور لا يثبت إلا في عيون من يعرف كيف يصونه.

الحياة نفسها انعكاس لهشاشة الضوء. اللحظات السعيدة لا تدوم، لكنها تكفي لتضيء سنوات من العتمة. الحب، الصداقة، الحلم.. كلها أنوار تولد ضعيفة وتبقى ضعيفة، لكنها تملك قوة غريبة على بعث الدفء في القلوب حتى بعد انطفائها. وربما أعظم ما في الضوء أن أثره يظل حاضرًا حتى بعد غيابه؛ مثل شفق الغروب الذي يلون السماء قليلًا، أو كذكرى باقية تبعث فينا حياة جديدة.

النور كرمز داخلي

الضوء ليس مجرد أشعة حسية، بل رمز لمعانٍ أعمق: الأمل الذي يشبه شمعة في ليل طويل، الإيمان الذي ينير القلب وسط الفتن، الحكمة التي تتلألأ وسط ضجيج الجهل. لكن هذا النور هشّ، يحتاج إلى حماية. فالشمعة لا تظل مشتعلة إلا بمن يصونها، والإيمان يحتاج إلى عمل، والحكمة إلى تربية وصبر. النور إذن مسؤولية، ومن لم يحافظ عليه ضاع.

في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (النور: 35)، حيث يتجاوز النور معناه الفيزيائي ليصير رمزًا للوجود والنظام والمعنى والطمأنينة. لكنه لا يكتمل إلا حين يستقر في القلوب، فيجعلها مصدر إشعاع للآخرين.

انعكاسات الطبيعة

الطبيعة تعكس الدرس نفسه. فالقمر لا يضيء بذاته بل يعكس نورًا من بعيد. والنجوم التي قد انطفأت منذ آلاف السنين ما زال ضوءها يسافر نحونا. وهكذا البشر؛ قد تنطفئ فينا بعض الأحلام، لكن أثرها يظل حاضرًا في عيون من عرفونا. كأن الضوء ليس ملكًا لصاحبه، بل عطية يهديها للعالم.

أبو الطيب المتنبي أشار إلى هذا البعد الرمزي حين قال: إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ … فلا تقنعْ بمـا دون النجومِ. فالنجوم هنا ليست مجرد أجرام، بل إشارات للمعالي والغايات العليا. النور إذن دعوة للسعي، حتى وهو بعيد المنال.

الدرس الإنساني

تأمل هشاشة الضوء يكشف لنا فن العيش: أن نقبل بأن كل ما هو جميل عابر، وأن دوام الحال ليس من طبيعة الوجود. الهشاشة ليست ضعفًا، بل نداء للوعي؛ أن نمسك باللحظة، نصون شعلة القلب، وألا ننخدع ببريق زائل.

وقد لخّص جبران خليل جبران هذا المعنى حين قال: «في قلب كل شتاء ربيع نابض، ووراء كل ليل فجر باسم». النور حاضر حتى وهو مختبئ، وهشاشته ليست موتًا بل انتظار لميلاد جديد.

بين الهشاشة والجمال

قد يُظن أن الهشاشة نقيض الجمال، لكنها في الحقيقة سرّ تأثيره. فلو كان الضوء دائمًا، لاعتدناه حتى الملل. لكن لأننا نعلم أنه سيغيب، نصبح أكثر حرصًا على التمتع به حين يحضر. لهذا شبّه الشعراء المحبوب بالضياء أو بالبدر؛ لأنه لحظة جمال تُرى ولا تُمسك.

ويبقى السؤال: هل هشاشة الضوء هي ما يجعله أجمل، أم أنها لعنة تلاحقه منذ مولده الأول؟ وهل نحن حين نتعلق بالأنوار نبحث عن قوتها، أم عن ضعفها الذي يشبهنا؟ لعل الجواب لا يُقال بالكلمات، بل يُعاش، حين نتعلم أن نحتضن شعلة صغيرة في قلوبنا ونتركها تنير الطريق، ولو للحظة عابرة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى