نزوى… مدينة القلاع والعقول

بقلم: معمر اليافعي
نزوى ليست مدينةً عابرة في ذاكرة عُمان، وليست مجرد موقعٍ أثريٍّ يزوره السائحون ويلتقطون عنده الصور.
نزوى هي عقل الوطن حين كان يبحث عن بوصلة، وهي القلعة التي جمعت بين الحجارة والفكر، بين سطوة الجدران وصوت العلماء، بين حزم السيوف ورقة القصائد.
أن تقول “نزوى” يعني أن تستحضر مدينةً لم تُبنَ فقط باللبن والطين والحجر، بل بُنيت بالعقول التي اجتمعت فيها لتناقش وتجادل وتبني فقهًا ودينًا وفكرًا صار فيما بعد هويةً كاملة.
نزوى هي المكان الذي علّمنا أن المدن ليست شوارع وأسواقًا فحسب، بل مدارس وعي ممتدّة عبر الأجيال.
حين تمشي في أزقتها، تشعر أن الجدران تهمس لك: هنا جلس فقيه يشرح حكمًا، وهناك شاعرٌ يكتب بيتًا، وهناك والٍ يفكر في قرارٍ يمسّ الناس.
كل زاويةٍ من زواياها شاهدٌ على أن المدينة لم تكن مجرد تجمعٍ سكاني، بل منظومة عقلٍ وروح.
نزوى كانت عاصمةً لعُمان في مراحل حرجة من تاريخها، لكنها لم تكن عاصمةً بالسلطة وحدها، بل بالمعنى الأعمق: عاصمة بالوعي.
القلعة التي تتربع وسط المدينة لم تكن حصنًا عسكريًا فحسب، بل رمزًا لمكانٍ تُصنع فيه القرارات، ويُحفظ فيه العلم، وتُتداول فيه الآراء.
إنها ليست مجرد أثرٍ سياحي، بل كتابٌ مفتوح، كل حجرٍ فيه سطر، وكل برجٍ فصل من فصول الذاكرة.
في نزوى، يلتقي التاريخ بالدين، والروح بالثقافة.
هنا عاش العلماء الذين تركوا للأمة إرثًا من المؤلفات والفتاوى والكتب التي لم تقتصر على العُمانيين فقط، بل امتدت لتكون جزءًا من المكتبة العربية والإسلامية الكبرى.
من فقه الإباضية إلى الشعر العربي، ومن علوم الفلك إلى تاريخ البحار، كانت نزوى مصنعًا للعقول ومعقلًا للسياسة.
لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح: ماذا تعني نزوى اليوم لنا؟
هل تبقى مجرد ماضٍ نتباهى به في كتب المدارس؟ أم يمكن أن تكون مشروعًا معاصرًا يعيد تقديم الهوية بلغةٍ جديدة؟
نزوى قادرة أن تكون أكثر من متحفٍ مفتوح.
يمكن أن تكون مدينةً للبحث العلمي في التراث، وأكاديميةً لدراسة الفقه المقارن، ومنصةً لصناعة الفكر الحديث، ووجهةً ثقافية وسياحية تعكس روح عُمان للعالم.
فالحفاظ على نزوى ليس ترميمًا لحجارةٍ فحسب، بل إحياءٌ للذاكرة في الحاضر.
لقد أثبتت تجارب المدن التاريخية أن الحجر وحده لا يكفي ليُبقي المدن حيّة.
فإسطنبول ليست عظيمة بمساجدها فقط، بل لأنها جعلت من تراثها موردًا سياحيًا وثقافيًا مستمرًا.
وفاس المغربية لم تبقَ على قيد الحياة لأن جدرانها قوية، بل لأنها حوّلت مدارسها القديمة إلى مراكز علمية ومعرفية.
وزنجبار لم تُذكر في كتب التاريخ فحسب، بل لأنها أعادت تدوير ذاكرتها في الحاضر.
فلماذا لا تكون نزوى مركزًا عالميًا لدراسة التراث العُماني والخليجي؟
لماذا لا تُطلق فيها معاهد للفنون الشعبية، وأكاديميات لتعليم الفقه والتاريخ، ومراكز للأبحاث الفكرية والفلسفية، لتصبح المدينة مختبرًا حيًا للوعي كما كانت في الماضي؟
نزوى تحمل مقوماتٍ لا تُحصى:
قلعتها المهيبة التي يمكن أن تتحوّل إلى متحفٍ حيٍّ للتعليم والتدريب،
أسواقها القديمة التي يمكن أن تُبعث بروحٍ جديدة كمراكز للحرف التقليدية،
مجالسها التي يمكن أن تستعيد دورها في الحوار والفكر،
وطبيعتها التي تمنح الزائر تجربةً متفردة بين الجبل والواحة.
لكن التحدي يكمن في الرؤية.
إذا تعاملنا مع نزوى كموقعٍ أثري فقط، سنختصرها في زيارةٍ سياحيةٍ سريعة تُلتقط فيها صورٌ ثم تُنسى.
أما إذا تعاملنا معها كمشروع وعي، فإنها ستصبح مصدر إلهامٍ للأجيال، وقوةً ناعمة لعُمان في العالم.
نزوى تحتاج أن تُروى بلغة العصر.
تحتاج إلى رواةٍ جدد يكتبون عنها لا كمدينةٍ من الماضي، بل كمدينةٍ للمستقبل.
تحتاج إلى أن تُربط بالحاضر عبر الفنون، والسينما، والرواية، والموسيقى، والتعليم.
فالتاريخ إذا لم يُترجم إلى وعيٍ معاصر، يبقى جميلاً لكنه جامد.
وأنا أكتب عن نزوى، أشعر أنها ليست مجرد مدينة، بل استعارة عن كل مدينةٍ عربيةٍ تحمل تاريخًا لم نعرف كيف نقدّمه.
نزوى تقول لنا: “إذا لم تُحافظوا عليّ، لن تخسروا مبنى، بل ستخسرون روحكم.”
فالحجر الذي لا يُصان يتحول إلى أنقاض، والعقل الذي لا يُستعاد يتحول إلى فراغ.
مسؤوليتنا تجاه نزوى لا تقتصر على حماية مبانيها، بل على إعادة تقديمها للعالم كمدينة عقول،
رمزًا للتوازن بين الدين والفكر، بين التراث والحداثة، بين الأصالة والتجديد.
نزوى ليست ذاكرةً محلية فقط، بل قادرة أن تكون رسالةً كونية عن كيفية حفاظ الشعوب على جذورها وهي تخطو نحو المستقبل.
نزوى التي حفظت لنا الفقه والشعر والمعمار، تستحق أن نحفظها بدورنا.
أن نمنحها حياةً جديدة، وأن نجعلها حاضرةً لا في الكتب وحدها، بل في التجربة اليومية.
فالمدينة التي كانت مركزًا للنهضة الفكرية والسياسية، يمكن أن تكون اليوم مركزًا لنهضةٍ جديدة: نهضةٍ تصالحية بين الماضي والحاضر، بين الإنسان وظله، بين الذاكرة والمستقبل.
نزوى ليست قصةً انتهت، بل كتابٌ ما زال يُكتب.
وكل جيلٍ يمرّ بها يُضاف كفقرةٍ جديدة في نصٍّ طويل بدأ قبل قرون، ولا ينبغي أن يتوقف الآن.
من تأملات ثروان:
“المدن ليست حجارة فقط… إنها أصوات عقولٍ سكنت فيها، فإن صمتت، ماتت المدينة ولو بقيت جدرانها.”
ابن الحصن
كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر والهوية والفلسفة المعاصرة.
رئيس تحرير سابق لمجلة “بيادر”.
صاحب تجربة طويلة في الإعلام والثقافة والتجارة.
مؤسس مشروع “ثروان”؛ رؤية ثقافية وتجارية تهدف إلى إحياء التراث الخليجي بروحٍ عصرية، ووصل الماضي بالحاضر.



