نزع سلاح غزة .. حين تُصاغ السردية الإسرائيلية بألسنة عربية

بقلم: سامر شعلان
في خضمّ العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، أكدت حركة “حماس” أن سلاح المقاومة “حق وطني وشرعي لا يمكن التنازل عنه، ما دام الاحتلال قائمًا”، مشددة على أن هذا الحق “لن يُساوَم عليه إلا بعد نيل كامل الحقوق الوطنية، وفي مقدّمتها إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، عاصمتها القدس”.
جاء هذا البيان ردًا على ما نُسب إلى المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، بشأن “استعداد الحركة لنزع سلاحها”، وفقًا لتقارير إعلامية تداولتها بعض الوسائل مؤخرًا.
غير أن اللافت – وربما الأخطر – لا يكمن فيما قاله ويتكوف أو نُسب إليه، بل في بروز خطاب عربي وإسلامي، أخذ يتكرر علنًا حينًا وبصيغ مبطّنة أحيانًا أخرى، يدعو إلى نزع سلاح “حماس” بحجة أنها تتحمّل مسؤولية ما يتعرض له القطاع من قصف وقتل ودمار.
هذا الخطاب المتقاطع مع السردية الإسرائيلية، لا يثير الاستغراب بقدر ما يثير القلق والتساؤل: ما الذي تغيّر في الموقف العربي من مفهوم المقاومة؟ متى يُعدّ الكفاح المسلح مشروعًا؟ ومتى يصبح عبئًا يجب التخلص منه؟ هل تغيّر الاحتلال أم أن بوصلة المصالح هي التي دفعت بالمبادئ خارج دوائر القرار؟
الأدهى أن رئيس السلطة الفلسطينية نفسه لم يتوانَ عن الدعوة إلى “دولة فلسطينية غير مدجّجة بالسلاح”، معتبرًا أن “المقاومة السلمية هي الخيار الأنسب لتقليل الخسائر”، وكأن مجازر الاحتلال يمكن احتواؤها بالمظاهرات والهتافات!
لكن هذا الطرح يبدو مفصولًا عن سياق الذاكرة العربية الحديثة، التي لم تكن يومًا ترى في الكفاح المسلح خطرًا، بل كانت تعتبره مسارًا مشروعًا للتحرر ورافعة لكرامة الشعوب. المصريون قاوموا الاحتلال البريطاني بالسلاح، الليبيون واجهوا الغزو الإيطالي، الجزائريون خاضوا حرب تحرير قدّموا فيها مليون ونصف المليون شهيد. لم يجرؤ أحد آنذاك على مطالبة هؤلاء بإلقاء السلاح كي لا “يعرضوا شعوبهم للمجازر”.
المفارقة أن كثيرًا من الأنظمة التي تطالب اليوم بضبط النفس ووقف إطلاق النار، كانت في زمن مضى ترسل السلاح والمال لحركات المقاومة، وتفاخر بذلك على منابرها. فما الذي تغيّر؟ أهو الاحتلال؟ أم الضحية؟ أم أننا أصبحنا نخشى أن تربك صواريخ غزة خرائط التطبيع الهشّة؟
إن تحميل “حماس” مسؤولية المجازر الإسرائيلية، هو في جوهره إعادة إنتاج للمنطق الاستعماري الذي طالما حمّل الضحية وزر الجريمة. فالعنف يبدأ من الاحتلال، لا من ردّ الفعل عليه؛ والغازي المدجّج لا يمكن مساواته بالمحاصر الأعزل.
إن المطالبة بتجريد الفلسطينيين من سلاحهم، دون المطالبة بإنهاء الاحتلال والحصار، تعني في حقيقتها: نريد فلسطين بلا إرادة، لا فقط بلا سلاح؛ نريد مقاومة بلا مقاومة، وشعبًا تحت القصف لا يمتلك حتى حق الردّ.
والأدهى أن بعض الأصوات التي تروج لنزع سلاح المقاومة، لا تعارض في الوقت ذاته تكديس السلاح داخليًا، بل تستخدمه في صراعات السلطة أو ما يُسمى “الحرب على الإرهاب”. وكأن شرعية السلاح تُقاس بهوية من يحمله، لا بعدالة القضية التي يُرفع من أجلها.
إن هذه الدعوات، في ذروة حرب إبادة تُرتكب بحق المدنيين في غزة، تعبّر عن تحوّل عميق في المواقف: من دعم الحق الفلسطيني، إلى مواءمة توازنات إقليمية تُراعي الحليف الغربي وتخشى المساس بمسارات التطبيع.
ما نحتاجه اليوم ليس إعادة تعريف “المقاومة”، بل إعادة تعريف مواقفنا من الاحتلال والعدالة والكرامة. فالمستعمِر – وإن غيّر لغته وشعاراته – لا يزال كما كان. والحق لا يُقاس بالخسائر، بل بعدالة القضية.



