آراء

نارجيل ظفار… حين تذبل الشجرة بصمت

بقلم: معمر اليافعي

Advertisement

في محافظةٍ تُعرف بعطر الخريف، ورائحة الأرض، وبتلك الأيادي الطيبة التي تسقي التراب كما تُسقي الأرواح، هناك شجرة ليست ككل الأشجار. شجرةٌ إن ذبلت، ذبل معها جزء من ذاكرة المكان: النارجيل.

كانت النارجيلة في ظفار رمزًا للحياة؛ تُشرب على الأرصفة، وتُقطف من الحقول، وتُهدى للضيوف بفخر، وتُباع في السوق كأنها هبة من الأرض لأبنائها. كانت الشجرة واقفة كجملة شعرية في مشهد ريفي؛ تهب ظلالها للأطفال، وثمارها للبيوت، ونكهتها للمدينة. لم تكن مجرد شجرة، بل كانت طقسًا اجتماعيًا، وموردًا زراعيًا، ولمسة من هوية المكان.

Advertisement

لكن منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، بدأ شيءٌ ما في التغيّر. الثمار صغرت، وذبلت، وخفت طعمها. توقّفت بعض الأشجار عن الإثمار، وأخرى بقيت واقفة فقط لأن جذورها لم تتعلم الانهيار. شيءٌ خفي تسلّل إلى الجذوع: مرض، صمت، وربما إهمال. مزيجٌ قاتل أدى إلى مشهد واحد… شجرة تموت بصمت، من دون أن يعبأ بها أحد.

يُقال إن الهند مرّت بتجربة مشابهة، حين أصيبت أشجار النارجيل بآفة العث، لكن حكومتها لم تصمت. تحرّكت، درست، أنفقت، وتعاونت مع مراكز البحوث، حتى استعادت شجرة جوز الهند عافيتها. أما في ظفار، حيث النارجيل ليست غريبة، بل من نسيج الأرض، فما زال المرض قائمًا، والثمار غائبة، والصمت مستمر.

المفارقة المؤلمة أن سلطنة عُمان كانت من أوائل الدول التي أدركت خطر هذه الآفة، فأنشأت في تسعينيات القرن الماضي مشروعًا بيولوجيًا في صلالة، ونجحت في إنتاج فطر طبيعي مفترس يَكافح العث دون اللجوء إلى المواد الكيميائية. كان المشروع رياديًا، نال جائزة دولية، وشكل بصيص أمل. ولكن… ماذا بعد؟ لا أحد يعلم.

المشروع لم يتحول إلى خطة وطنية مستدامة، ولم يُوسّع ليشمل كل الحقول. اختفى كما تختفي الأشياء الجميلة في زحام الروتين، وذاب صوته كما يذوب الندى تحت شمس الإهمال.

وفي المقابل، نشاهد حملات دائمة لرش ومكافحة آفات نخيل التمر في محافظات السلطنة، باستخدام الطائرات وبخطط واضحة وميزانيات معلنة. وهذا أمرٌ محمود. لكنه يثبت أن القدرة موجودة… حين تكون هناك إرادة.

أما شجرة النارجيل، فقد تُركت وحدها تواجه مصيرها، كأنها نبتة دخيلة لا تنتمي إلى هذه الأرض.

واليوم، يُستورد جوز الهند من الهند إلى أسواق ظفار. نأكله مستوردًا، ونبيعه للزوار على أنه منتج خارجي. نعم، صرنا نشتري ما كنا نزرعه. نبتاع نكهة كنا نملكها.

فهل بلغ بنا الحال أن نستورد ملامح هويتنا؟ هل نخون الشجرة كما نخون الذاكرة؟ أهو جهل؟ أم تجاهل؟ أم صمت ألفناه حتى غدا مريحًا؟

النارجيل ليست مجرد شجرة. إنها حكاية، وسوق، ومورد، وذكرى. صورة معلقة في ذاكرة طفل، ورزقٌ كان ينتظره مزارع كل موسم. إنها مرآة لعلاقتنا بالأرض، وصدقنا مع هويتنا.

ومن هنا، نرفع الصوت. لا لنهاجم، بل لنسأل. لا لِنعاتب، بل لنطالب. لا لِنُدين، بل لِنُذكر.

فالشجرة حين تذبل، لا تطلب شيئًا… فقط تريد أن نراها، ونفهم ألمها، ونرد لها الحياة التي أعطتنا إياها.

ظفار لا تستحق هذا الصمت، والنارجيل لا تستحق هذا الغياب. وعلى الجهات المعنية أن تعيد النظر. أن تُطلق خطة إنقاذ علمية، تستند إلى التجربة السابقة، وتتعاون مع من نجحوا في العلاج. أن تُعلن تقارير دورية، وتُصغي لصوت الأرض، والمزارع، والمستهلك.

لا نريد شعارات، بل خطوات. لا نحتاج استيراد الثمرة، بل استعادة الجذر.

فالأرض لا تخون أحدًا… لكنها تذبل حين نخونها نحن بصمتنا.

صوت من ظفار

لأن الشجرة تتكلم حين نصمت… ولأن التراب لا ينسى من خانه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى