موقفٌ للتمعُّن
بقلم : د. صالح الفهدي
بعد أن أدَّيتُ صلاة المغربِ في أحد المواقع الرياضية ، لفتَ نظري أن الأشبال الذي يمارسون التدريبات الرياضية من قِبل أكاديمية رياضية مستمرون في مِرانهم ، لم يُمنحوا استراحةً للصلاة ، فسألتُ والدَ أحد الأشبال وقد أنهى الفريضةَ معنا فيما إن كان ابنه وأقرانه قد صلُّوا المغرب أم لا ، فأكَّدَ لي أنهم لم يصلُّوا وهذا برنامجهم المُعتاد!! وحين سألته لماذا لم يبلِّغوا أصحاب الأكاديمية الرياضية بذلك ، طلبَ مني أن أقوم فأتحدَّثَ إلى مدير الأكاديمية وكان من جنسيَّة عربيَّة ، فتوجَّهتُ إليه وسألته لِمَ لم يمنحوا الأشبال استراحةً للصلاة ، فأجاب أنه من “المنظور التجاري” فإنَّ الوقتَ المستأجرِ لهم وهو ساعةٌ ونصف الساعة ، لا يسمح باقتطاعِ جزءٍ من الوقتِ للصلاة!! فقلتُ له : سيضيع إذن وقت صلاة المغرب وسيدخل وقت العشاء ، علَّق : هذا الوقت المتاح للأسف! قُلتُ له : إذن أنتَم ترسِّخون في عقولهم بهذا أنَّ العبادةَ أمرٌ ثانوي ، وأن الرياضة هي أهمُّ من الصلاة ، وبهذا سيكبرون على هذا المعتقد ، ثم حين يؤذن المؤذِّن وهم يلعبون أو يشاهدون المباريات لا يلقون بالًا للصلاة!
ثم إنني دخلتُ في جدالٍ معه لإقناعه شارحًا له ما يواجهه أبناؤنا من مؤثرات وتحديات في دينهم وأخلاقهم والواجب الذي يفترض أن نؤديه نحن بكلِّ حزمٍ وعزم دون تهاون ، حتى اقتنع ، بل وكأنه استفاقَ فجأةً من غفلةٍ قائلًا : لقد أفقتني من غفلتي وجعلتني أُراجعُ أمورًا كثيرةً ، وبإذن الله سنخصِّصُ للأشبالِ وقتًا للصلاةِ في كلِّ مرَّةٍ يتخلَّل التمارين فيها وقتُ الصلاة.
في الحقيقةِ لم يكن لديَّ ابن مشاركٌ في تلك الأكاديمية الرياضية ، ولكنني اعتبرت الأشبال في منزلةِ أبنائي ، لهذا لم أتردَّد في التحدُّثِ مع مدير الأكاديمية لنصحهِ من منطلق أنَّ “الدين النصيحة” مستغربًا وجود آباءٍ صامتونَ يؤدُّون واجب دينهم ولم يجرأوا التحدث في شأنِ صلاةِ أبنائهم!!
هذا الموقف يفتحُ أبوابًا للحديثِ فيها؛ إذ لا أريدهُ أن يمرَّ مرورًا لا يُستفادُ منه؛ بل أنني أُسجِّل من خلاله هنا عدَّة دروس لابدَّ وأن نأخذها في الاعتبار؛ أما الدرس الأوَّل فهو اجتماعيٌّ إذ أِنَّه لا يجب على المجتمع أن يتخلَّى عن النصيحة ويرفع يديه عنها متنصِّلًا من أمانتها حين يراها واجبةً فهي في عنقهِ مسؤولًا عنها إن كان قادرًا على تقديمها ولم يقم بذلك ، ولقد رفع البعض يديه قائلًا : لا شأنَ لي بالنصيحة ، أو أنَّ الأمر لا يخصُّني ، أو لا مصلحة لي ، وهذا مردَّهُ إلى التهرُّبِ من المسؤولية الاجتماعية ، فالجميع مسؤول ، ومطالبٌ بالنصيحة أنَّى توفَّرت عناصرها في ملائمةِ الوقتِ وحسن الأُسلوب ، ولو أنني قُلتُ وقال غيري : لا مصلحةَ لنا في أن يؤدي هؤلاءِ الأشبال الصلاة ، لما كان في ذلك خيرٌ للمجتمعِ عامَّةً ، بل أننا نكون قد ساهمنا في اندثار أركانِ الدين وضعف الإيمانِ فيه ، وهذا يؤدي إلى خرابٍ عامٍ للمجتمع ، وانحطاط في قيمه ، يقول الحق سبحانه وتعالى في أسباب خرابِ أُممٍ بعينها : “كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ” (المائدة: 79).
أما الدرس الثاني فهو تربوي إِذ كيف لا يهتمُّ الآباء بالبرامجِ التي يشتركُ فيها أبناؤهم إن كانت تعتني بالعبادة أم تجعلها أمرًا ثانويًا أو شخصيًا أو تلغيها تمامًا؟! فالتربيةُ الحقيقة هي القائمة على جعل الإيمان هو الأساس المتين الذي تُبنى عليه شخصية الأبناء ، وكلُّ بناءٍ آخرَ لا يقوم على هذا الأساس الروحاني إنَّما هو بنيانٌ مهزوز الأركان ، ضعيف اللَّبنات. فضلا عن ذلك فالآباء هم المسؤولون عن أبنائهم والمؤتمنون عليهم فلا يجب أن لا يتابعوهم في أمورٍ أولها الحرص على أداء العبادات، يقول الحق سبحانه وتعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ” (التحريم: 6).
أما الدرس الثالث : فهو للذين ينظرون إلى الأمور من منظور تجاريٍّ بحت ، ولا يعتنون بالجانب الإيماني الذي يفترضُ أن يتصدَّر كلَّ اهتمام ، فالربح الحقيقي لا يأتي من المال بل من بركة الإيمان والاعتناء به ، والحرص على أداء فرائضه ، أمَّا إن حسبوا أمورهم ماليًا فهي في الأساسِ خاسرةٍ لأنها منزوعة البركة إن لم يضعوا الدين في قلب حساباتهم.
مجتمعاتنا المسلمة تتعرَّضُ لمؤامرات واضحةٍ ، وتشويهٍ قيمي بيِّن ، وهي تحدِّيات لا تُخفى على أحد ، فإذا كانت هذه التحديات تأتي من الخارج فكيف يُرضينا أن نُسهم في إنجاح هذه المخططات التي من شأنه إضعاف الوازع الإيماني في نفوس أبنائنا عبر جعل الدين أمرًا ثانويًا على التعليم أو الرياضية أو المصالح المادية أو الأعمال على اختلافها؟! إننا إن انتهجنا هذا النهج أضعنا وجهتنا الصحيحة التي ندعو الله بها كل يوم في صلواتنا “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة: 6)، في حين أننا نسلكُ على خِلافِ ما ندعو الله إليه، فكيف يهدينا الصراط المستقيم إن كُنا لا نحرصُ على المضي في الطريق المستقيم لما تمليه أهواؤنا ورغباتنا؟!
لا شك أن بناء الشخصية الإنسانية سيكون هشًّا ومتداعيًا دون البناء الإيماني أولًا ، ولهذا فإِنَّ الدين هو سبب بقاء هذه الأمة المسلمة وبذلك فالواجب يحتِّم عليها أن توثِّقَ عُراه ، وتوطِّد مسالكه ، وتقوي أركانه ، وتعظِّم شعائره.
أما المجتمع فهو مطالبٌ اليوم بأكثرِ مما كان سابقًا أن يُصلح نفسه ، وإصلاح النفس لا يعني أن يستقلَّ كلَّ فردٍ بذاته وبالأقربين من أهله ، وإنَّما واجب الإصلاحِ عامٌّ يندرجُ في مسلكه هذا الخطابُ وكلُّ خطابٍ يرمي إلى الإرشاد والتسديد والتعزيز والتنبيه.
إنها دروسٌ لا بُد من الأخذ بها إذا ما اردنا الحفاظ على هويتنا العربية الإسلامية التي هي السِّمة الأصيلة التي تميِّزنا عن غيرنا ، ثم إنها العصمة التي تعصم مجتمعنا من أيِّ ضررٍ مقصودٍ، وخللٍ منشود.