من شِعب أبي طالب إلى غزة .. الحصار يتكرّر والخذلان يتجدد

بقلم : سامر شعلان
في غمرة الحصار الخانق الذي يطوّق أعناق أهل غزة، يصبح الخبز أمنية، والماء معجزة، والدواء حلمًا بعيد المنال. الكهرباء تتقطع، والمستشفيات تئن تحت وطأة الجراح، والسماء تمطر نارًا بلا رحمة. مشهد يومي بات مألوفًا، تتناقله الشاشات بأرقام باردة عن الشهداء والجرحى، أرقام تُقال وتمضي، دون أن تلامس ضميرًا أو توقظ وجعًا.
وسط هذا الصمت العالمي المطبق، حيث تمرّ المجازر تحت أنظار العالم وكأن شيئًا لم يكن، يتكشّف أن ما يجري ليس مجرد جريمة مستمرة، بل انحدار أخلاقي مرعب. سقطت الأقنعة، وتبددت أوهام العدالة، وتحوّلت المجازر إلى مشاهد باهتة في نشرات الأخبار.
يبدو أن التاريخ لا يكتفي بأن يُروى، بل يعيد نفسه مرارًا، ولكن بنُسخ أشد قسوة. فكما حاصر زعماء قريش النبي محمدًا ﷺ ومَن ناصره من بني هاشم في شِعب أبي طالب، لا لشيء سوى رفضهم الظلم، يتجدد الحصار اليوم على غزة. ولكن هذه المرة، لا يفرضه كفار مكة، بل أيادٍ من بني جلدتنا، تتحدث بلغة الخذلان وتُزيِّن خنوعها بعبارات الحرص والدبلوماسية.
في شِعب الأمس، عوقب من قال “لا” في وجه الاستكبار، وفي غزة اليوم يُعاقَب من يقاوم الاحتلال ويتمسك بالأرض والعقيدة، لأنه لا يرضى بالتطبيع ولا يقبل المساومة. العدو لم يعد وحده مَن يفرض الحصار ويقصف البيوت، بل أصبح له شركاء جدد من المحيط العربي، يصفّقون له، ويُجرِّمون المقاومة، ويُجفِّفون منابع الدعم.
لقد انقلبت المعايير: أصبح الشرف تُهمة، والنضال جريمة، والصمت حكمة! المقاوم بات يُلاحَق ويُشيطن، بينما يُروَّج للمعتدي كلغة سلام، وتُغضّ الأبصار عن جرائمه.
في غزة، يُستخدم التجويع كسلاح حرب، لا ضد المقاتلين فحسب، بل ضد الأطفال والنساء والمرضى. سلاح قديم مارسته قوى الاستعمار حين فشلت في كسر إرادة الشعوب بالرصاص، ويعيد الاحتلال اليوم إنتاجه بوجهٍ جديد، مدعومًا بصمت عالمي، وتواطؤٍ إقليمي، بل وتمويلٍ مُعلن.
ومع ذلك، فإن دروس التاريخ لا تُخطئنا؛ فشِعب أبي طالب لم يدم، والحصار لم يخلّد، بل انكسر أمام الصبر والصمود. النبض الذي عاش تحت وطأة الجوع والخذلان خرج من العتمة إلى نور الرسالة.
وكذلك غزة، برغم الجراح والخذلان، تكتب كل يوم ملحمة من الكبرياء والإصرار، وتقول للعالم بصوت لا يخبو: “لسنا أرقامًا تُعدّ وتُنسى.. نحن أمّة تنبض بالحياة، ومقاومة لا تموت”.