آراء

من بريتون وودز إلى صندوق النقد .. قصة السيطرة الناعمة على القرار السيادي بالأرقام

بقلم: سامر شعلان

Advertisement

في عالمٍ لم يعد يُخاض فيه الصراع بالسيوف ولا يُحسم بالمدافع، برزت ساحات جديدة تُخاض فيها الحروب بصمت… عبر الأرقام، والمؤشرات، وشروط القروض. فمنذ اتفاقية “بريتون وودز” عام 1944، لم يعد الاقتصاد مجرد شريان الحياة للدول، بل أداة خفية لصياغة موازين القوى، وتكريس الهيمنة الناعمة، وسلب القرار السيادي دون طلقة رصاص واحدة.

كانت “بريتون وودز” نقطة التحول الكبرى. هناك، في تلك القرية الأمريكية الصغيرة، اجتمعت 44 دولة تحت شعار “تحقيق السلام بعد الحرب العالمية الثانية”، لكنها خرجت باتفاق كرّس الدولار الأمريكي كعملة مركزية بديلة للذهب، ومنح الولايات المتحدة سلطة مالية لا محدودة على الأسواق العالمية. ومنذ ذلك اليوم، بدأت ملامح نظام اقتصادي جديد يتشكل، تتحكّم فيه مؤسسات دولية وشركات عابرة للقارات، وتُدار أدواته بشروط تبدو ظاهرها التنمية وباطنها الهيمنة.

Advertisement

في كتابه الشهير “الاغتيال الاقتصادي للأمم”، يفتح الاقتصادي الأمريكي جون بركنز الستار عن أحد أوجه هذه الهيمنة، عبر ما يصفه بـ”قرصنة مالية ناعمة”. إذ تقوم الدول الكبرى، عبر مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدولي، بمنح قروض ضخمة للدول النامية، تحت شعار دعم البنية التحتية والتنمية، لكن بشروط دقيقة تجعل هذه الدول رهائن دائمة.

يصف بركنز بأسى كيف تتحوّل تلك القروض إلى أدوات لاستنزاف موارد الدول، إذ تُوجّه في الغالب إلى شراء خدمات ومنتجات من شركات غربية، بدلاً من بناء اقتصاد محلي مستدام. وعندما تعجز الدول عن السداد، تُفرض عليها شروط سياسية واقتصادية “مهينة”، كفتح الأسواق بلا حماية، أو تسليم أصول استراتيجية، أو حتى قبول وجود عسكري أجنبي على أراضيها.

الكاتبة الإيطالية لوريتا نابوليوني تذهب أبعد من ذلك، في كتابها “الاقتصاد العالمي الخفي”، لتكشف النقاب عن الوجه غير المرئي للرأسمالية الحديثة، حيث الفوضى ليست خللًا طارئًا بل شرطًا لازمًا لازدهار الأسواق العالمية. فهي ترى أن الحروب، والجريمة المنظمة، وتجارة الجنس، والأزمات المالية المفتعلة، كلّها حلقات في منظومة مترابطة تغذّي الطلب، وتخلق أسواقًا جديدة لمنتجات فائضة، وشروطًا “مثالية” لإعادة الإقراض.

وترى نابوليوني أن ما نراه من سباق استهلاكي محموم ليس سوى “اقتصاد موت”، يفكك العلاقة الطبيعية بين الإنسان وبيئته، ويكرّس العزلة والاغتراب في مقابل شعارات النمو والحداثة.

الصورة التي ترسمها هذه الكتب ليست نظرية تمامًا. فالأرقام الحديثة الصادرة عن صندوق النقد الدولي تُظهر واقعًا مقلقًا في العالم العربي، حيث تراكمت الديون على العديد من الدول بدرجات متفاوتة، جعلتها رهينة تقلبات السوق والمساعدات الخارجية.

ووفقاً لتلك البيانات حتى نهاية 2024، جاءت مصر في صدارة الدول العربية من حيث حجم الدين العام بنحو 345.5 مليار دولار، تليها السعودية بـ 311.5 مليار دولار، ثم الإمارات بـ 171.1 مليار دولار. لكن الأهم من الأرقام المجردة، هو نسب الدين إلى الناتج المحلي، حيث سجّل السودان نسبة صادمة بلغت 272%، يليه لبنان 164.1% ، تليه البحرين بـ 134%، في حين بلغت النسبة في مصر نحو 95.8%.

تكشف هذه المؤشرات عن هشاشة بنيوية في الاقتصادات المعتمدة على الدين لتمويل العجز، وسط بيئة دولية تتسم بتقلب أسعار الفائدة، وتزايد التحديات التنموية، وندرة الفرص الاستثمارية المنتجة.

ما بين القروض المشروطة، و”إعادة الإعمار” القسرية، وإغراق الأسواق بالسلع، تتضح ملامح استراتيجية متكاملة تُعيد صياغة النفوذ العالمي بأدوات لا يُسمع لها صوت. إنها حرب ناعمة، تستبدل الجيوش بالبنوك، والقواعد العسكرية بمؤشرات الأسواق، والمفاوضات السياسية بمراجعات التصنيف الائتماني.

في هذا السياق، لا يبدو السؤال المطروح اليوم: من يُهيمن؟ بل: كيف يُدار العالم؟ وهل يستطيع أي بلد أن يفكك هذه المنظومة دون أن يُقصى من الأسواق، أو يُحاصر في دوامة الديون؟

في زمنٍ صارت فيه البورصات مسارح صراع، والقروض أدوات إخضاع، لم يعد من الضروري رفع السلاح لإسقاط دولة… يكفي أن تهتز عملتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى