من آيات شيطانية إلى شارل إبدو..ما علاقة الحرية بالإساءة للأديان؟!
بقلم : سامر شعلان
في العام 1988م صدر للكاتب الهندي المغمور ـ وقتئذن ـ سلمان رشدي رواية بعنوان آيات شيطانية ، ولم توزع الرواية عند نشرها سوى عشرات من النسخ واضطرت دار النشر البريطانية للتوقف عن طباعتها لقلة توزيعها ، بعد ثمانية أشهر من صدورها وقعت الرواية في يد أحد الصحفيين المسلمين المقيمين في بريطانيا ، وراعه ما ورد بها من إساءات للنبي محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ونشر أجزاء من الرواية وما حوته من ترهات في جريدته ، وانتشر الخبر بين مسلمي بريطانيا ، ومنها انتقل إلى مسقط رأس سلمان رشدي في الهند ، ومن ثم إلى باكستان وبنجلادش وبقية الدول الإسلامية ، وانقلبت الدنيا رأسا على عقب ضد الرواية المسيئة ، وأصبح اسم كاتبها على كل لسان وتصدرت صورته أغلفة الجرائد والمجلات في الشرق والغرب على حد سواء.
وبعدما كان سلمان رشدي مؤلفا مغمورا يتولى كتابة الإعلانات لسلع تافهة في إنجلترا، تحول إلى واحد من كبار الكتاب في أوروبا والعالم ، خصوصا بعد فتوى إهدار دمه وتخصيص جائزة قدرها مليون دولار لمن يقتله ، وفي الوقت الذي تم فيه حظر دخول الرواية معظم الدول الإسلامية ، وتنظيم فعاليات لحرق الآيات الشيطانية ، كان هناك موقف مغاير على الجانب الآخر، فقد وقف معظم ساسة ومثقفي الغرب مع سلمان رشدي وروايته المسيئة ، وأدانوا فتوى إهدار دمه، واعتبروا أن ما جاء في روايته نوع من حرية الرأي والتعبير المكفولة بحكم الدستور للجميع.
تحول سلمان رشدي إلى أيقونة لدى الغرب ، وخصصت له الحكومة البريطانية مسكنا حصينا في مكان سري وحراسة على مداراليوم ، خوفا على حياته ، وتوالت الجوائز والتكريمات والدعوات على الكاتب الذي كان نكرة لا يعرفه أحد ، وتم طبع الرواية المسيئة عدة مرات ووزعت آلاف النسخ ، وذاع صيتها وأصبحت أكثر الروايات مبيعا حول العالم في العام 1990م ، وتم استضافة رشدي في كبريات الصحف والمجلات والمنتديات والجامعات ودور النشر في أميركا وكندا والدول الأوروبية باعتباره رمزا للحرية والتنوير، وبعدما نال أكثر مما كان يتمناه من الشهرة والمال ، قدم سلمان رشدي اعتذاره للمسلمين عما سببته روايته من جرح لمشاعرهم دون التراجع عن آرائه المطروحة في الرواية ، بعدما ظل عشر سنوات مختبئا في قبو حصين ، وبعد سنوات أصبح سلمان رشدي نسيا منسيا ولم نقرأ له شيئا ذا قيمة، سمعنا فقط عن فضائحه الشخصية وحياته العائلية المضطربة.
تكررت نفس الإساءات في الدنمارك عندما نشرت صحيفة محلية رسوما مسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ، بنفس الذريعة؛ حرية التعبير، وحاولت الجالية المسلمة في الدنمارك إثناء القائمين على الجريدة عن نشر هذه الترهات ، دون جدوى وأخذتهم العزة بالإثم ، بل قامت صحف ومجلات أوروبية أخرى بإعادة نشر الرسومات المسيئة للتعبيرعن مساندتها لحرية التعبير، وثار المسلمون في كافة دول العالم ضد الدنمارك ورسوماتها المسيئة ، وتعرضت السفارات والمصالح الدنماركية في كثير من الدول للحصار والاعتداءات ، واتسعت الحملة لتشمل مقاطعة السلع الدنماركية ، وفقد أكثر من 11ألف عامل دنماركي وظائفهم بالإضافة لخسارة ملايين اليوروهات ، مما حدا بالحكومة الدنماركية للضغط على رئيس تحرير الصحيفة المسيئة ، ليخرج ببيان يعتذر فيه عن الأذى الذي سببه نشر الرسومات المسيئة لمشاعر المسلمين.
لم تتعظ صحيفة شارل إبدو مما جرى لربيبتها في الدنمارك ، وقامت بنشر رسوم كاريكاتير مسيئة للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ، وكانت المصيبة هذه المرة أكبر ففرنسا بها قرابة 10ملايين مسلم ، كان رد فعلهم عنيفا ضد تصرفات الصحيفة الخرقاء، فرغم تعرض مقرها للحرق والتدمير الكامل في العام 2011م بعد إعادة نشرها للرسوم الدنماركية المسيئة ، عاودت شارل إبدو الكرة في العام 2015م ونشرت رسوما كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ غير عابئة بردود الأفعال التي كانت شديدة العنف والدموية هذه المرة ، بعدما شن مجموعة من المتطرفين هجوما على مقر الجريدة أسفرعن قتل 12فردا من طاقمها بينهم 4 رسامين من أصحاب الأعمال المسيئة وإداريون وفنيون ورجل أمن ، حتى كان الموقف الأخير بإعادة نشر الرسومات المسيئة دون مبرر، وعرض مدرس التاريخ الفرنسي الرسومات على تلاميذه الأمر الذي انتهى بذبحه على يد أحد المتطرفين.
لا أدري ما علاقة حرية التعبير بالإساءة للأديان ، والاستهانة بمشاعر ملياري مسلم ، فهناك مئات المجالات والأفكار التي يمكن لهؤلاء المنفلتين ممارسة حرية إبداعهم من خلالها دون التعرض لدين أو الإساءة لنبي ، وقد أصاب مفتي السلطنة فضيلة الشيخ العلامة الجليل أحمد بن حمد الخليلي ، في التصدي للمسيئين للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم ، معتبراً أنهم ذوو نفوس مضطربة وعقول مختلة ، ووصفهم بالجهل والاضطراب في تغريدة على حسابه الرسمي بموقع “تويتر” إن المتطاولين على مقامِ الرسولِ الأعظم ، أو على دينه الإسلام ، أو معجزته القرآن ، ينكشفُ لكل من ينظر في سوابقهم أن نفوسهم مضطربة ، وعقولهم مختلة ، وفطرتهم متعفنة ، يعافُون كلَّ خير، ويأنفُون من كلِّ فضيلة ، وينجذبون إلى كلِّ شر، ويعشقون كلَّ رذيلة، ولا ينضحُ الإناء إلا بما في داخله”.
كما أشاد فضيلة الشيخ بحملة مقاطعة المنتجات الفرنسية رداً على تطاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على النبي ، ودعمه الرسوم الكاريكاتورية المسيئة.
ونشر رسالة دعا فيها إلى ضرورة اتفاق الأمة على سحب رؤوس أموال المسلمين من المؤسسات الاقتصادية التي يديرها هؤلاء المعتدون المتطاولون على المقام العظيم لنبينا.
ورد فضيلته على الرئيسَ الفرنسي مبينا أن الزعم بأن الإسلام يمر بأزمة يأتي من باب “رمتني بدائها وانسلت”، في إشارة إلى تصريحات ماكرون الأخيرة التي أدعى فيها أن الإسلام يمر بأزمة في جميع أرجاء العالم، داعياً إلى ضرورة التصدي لما سماها “الانعزالية الإسلامية.
كما كان لشيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب موقف مشرف في كلمته بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، حينما طالب المجتمع الدولي بسن قوانين تجرم الإساءة للإسلام والمسلمين ، أسوة بقانون معاداة السامية ، الذي يجرم أي فعل يسئ لليهود أو يسخر من نجمة داود أو القلنسوة اليهودية ، بل هناك محاولات في البرلمان الفرنسي لسن قانون يجرم معاداة الصهيونية.
وشدد الإمام الأكبر على أن الإساءة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- عبث وتهريج وانفلات وعداء صريح للدين الصحيح ولنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأكد استنكاره للحملة الشرسة الممنهجة على الإسلام ، رافضًا أن تكون رموزه ومقدساته ضحية مضاربة رخيصة في سوق السياسات والصراعات الانتخابية في الغرب.
كما حذر الطيب المتساهلين والمبررين للإساءات المتكررة على الإسلام ورسولنا محمد عليه الصلاة والسلام قائلا: أقول لمَن يبررون الإساءة لنبي الإسلام: إن الأزمة الحقيقية هي بسبب ازدواجيتكم الفكرية وأجنداتكم الضيقة ، وأُذكِّركم أن المسؤوليةَ الأهمَّ للقادة هي صونُ السِّلم الأهلي ، وحفظُ الأمن المجتمعي ، واحترامُ الدين ، وحمايةُ الشعوب من الوقوع في الفتنة ، لا تأجيج الصراع باسم حرية التعبير.