آراء

مسقط القديمة … حين يتكلم الحجر

بقلم: معمر اليافعي

Advertisement

في الأزقة الضيقة التي تتلوى كأحلام الطفولة، وعلى الجدران التي لم تلمسها أصباغ الحداثة، وفي النوافذ الخشبية التي أكلت الشمس حوافها، ثمة مدينة تتنفس ببطء ووقار… إنها مسقط القديمة.

هذه ليست مسقط التي تراها في الكتيبات السياحية أو خلف الزجاج العاكس لواجهات الأبراج والمراكز التجارية، بل هي مسقط الأولى؛ التي كانت البحر سندها والجبال درعها، قبل أن تتبدل ملامحها تحت زحف الطرق المزدوجة ومشاريع العمران.

Advertisement

هنا، يتحدث الحجر. كل جدار يروي حكاية، وكل زقاق يحتفظ بذكرى تاجر عائد من رحلة بعيدة، وكل شرفة شهدت انتظارًا أو وداعًا. السير في مسقط القديمة أشبه بعودة إلى الطفولة؛ حيث الزمن ليس خطًا مستقيمًا، بل دائرة تعيدك إلى البدايات، لتذكّرك أن المدن، مثل البشر، لها طفولة يجب أن تبقى حيّة.

من سوق مطرح العتيق، حيث تختلط روائح اللبان والتوابل، إلى البيوت المطلة على البحر التي عاشت على إيقاع المد والجزر، تبدو مسقط القديمة ككتاب مفتوح: صفحاته من الحجر المرجاني، حروفه من الخشب المنقوش، وعناوينه من الحكايات الشفوية التي تنتقل بين الأجيال.

لكن هذه المدينة ليست مجرد ماضٍ عالق في الذاكرة، بل هوية نابضة بالحياة. في تفاصيلها نرى كيف امتزجت الحضارات: العرب بالشعر، الفرس بالحرف، البرتغاليون بالأبراج، والعُمانيون الذين أعادوا صياغة المكان على طريقتهم، ليصير المزيج لوحة لا شبيه لها.

ورغم هذا الغنى الثقافي، فإن مسقط القديمة لم تحظَ بعد بالاهتمام الذي تستحقه. فبينما تحولت مدن تاريخية مثل إسطنبول وفاس وزنجبار إلى مراكز نابضة بالسياحة والثقافة، لا تزال مسقط القديمة تعيش بين الترميم المتواضع والإهمال الصامت. نعم، هناك محاولات لترميم بعض البيوت والأسواق، لكنها جهود متفرقة بلا رؤية متكاملة تعيد للمكان روحه الاقتصادية والثقافية.

لقد أثبتت تجارب المدن التاريخية أن التراث ليس عبئًا على الحداثة، بل رصيدها الأهم. تحويل البيوت إلى مقاهٍ ومتاحف وبيوت ضيافة، وتنظيم مهرجانات ثقافية سنوية، وابتكار مسارات سياحية تربط القلاع بالأسواق والموانئ، كلها خطوات يمكن أن تجعل من مسقط القديمة مركزًا عالميًا يعكس الثقافة العُمانية.

فالمدينة القديمة ليست متحفًا جامدًا، بل كائن حي يحتاج إلى أن يُعاد إحياؤه مع سكانه وزواره. الحفاظ عليها يعني ربط الماضي بالحاضر، وإعطاء الأبراج الحديثة جذورًا تستمد منها معناها.

وأنا أمشي بين جدرانها، شعرت أن الحجارة تراقبني بصمت، وكأنها تسأل: “هل ستتركونا ننهار؟ أم ستعيدوننا إلى الحياة؟”. حينها أدركت أن كل نافذة منقوشة مسؤولية، وكل زقاق دعوة للتذكر، وأن الهوية لا تعيش في الكتب وحدها، بل في الشوارع التي نطؤها، والبيوت التي تحيط بنا.

إن الحفاظ على مسقط القديمة واجب ثقافي، لكنه أيضًا فرصة اقتصادية وسياحية وروحية. هنا يمكن أن تتكامل عناصر الضيافة والحرف والطعام المحلي، لتُصنع تجربة لا تُنسى للزائر والمقيم.

المدن يمكن أن تتغير وتكبر وتتطور، لكن إن فقدت أصلها، تحولت إلى مسرح بلا قصة. أما مسقط القديمة، فما زالت قصتها تنتظر من يكتب فصلها الجديد.

من فلسفة ثروان:

“المدينة التي تنسى حجارتها، تنسى ملامحها… والحجر الذي لا يُصان، يتحول من شاهد على التاريخ إلى شاهد على النسيان.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى