آراء

مزارع صلالة .. هوية تُطوّقها الجدران

بقلم: معمر اليافعي

Advertisement

في محافظة ظفار، حيث يلتقي البحر بالجبال وتتماهى الصحراء مع النسيم، هناك ما يتجاوز الجغرافيا… هناك نكهة لا تشبه سواها، نكهة المدن التي تتنفس الطبيعة لا الإسمنت.

في قلب مدينة صلالة، لا تدهشك المباني ولا تُغريك الأسواق بقدر ما تفاجئك تلك المزارع، التي لا تكتفي بالمكوث على هامش المدينة، بل تعيش في صميمها، كأنها شرايينها الخضراء.

Advertisement

ليست هذه المزارع مجرد رقع زراعية، بل هي هواء طري، ومساحة وجدانية، وذاكرة مفتوحة على الطفولة والبساطة، على تفاصيل الحياة التي لا يفهمها الإسمنت.

ما يميز صلالة ليس خريفها فقط، بل هذا الانسجام الفريد بين الريف والحضر، بين المزرعة والحارة، بين نخلة تطل من جدار، وطفل يركض في ظلها. هذه المزارع منحت المدينة طابعًا لا يُشبه سواها، ومشهدًا يدهش الزائرين، ويؤنس الساكنين.

لكن في السنوات الأخيرة، تغيّرت الملامح بصمت. كثير من المزارع تحوّلت إلى أحواشٍ مغطاة بالسقوف، تحجب الجمال وتعزل الحياة خلف الجدران. وبعضها الآخر شُيّدت فيه منازل، فتداخل السكن مع الزراعة، واختفى الخط الفاصل بين الأرض التي تُثمر، والبيت الذي يُؤوي.

والنتيجة؟ تراجعٌ في المشهد العام، وتهديدٌ حقيقي لهوية المدينة، بصريًا وثقافيًا ونفسيًا.

ظفار تمتلك من المقومات ما يجعلها نموذجًا عمرانيًا متفردًا: بحرٌ مفتوح، وجبالٌ شامخة، وصحراء مترامية، وفي القلب… مزارع نابضة. فأي مدينة أخرى في العالم تملك هذا التنوع الساحر؟ ولماذا نفرّط فيه، ونسمح بدفنه تدريجيًا تحت ركام العشوائية وتعديات البناء؟

حماية المزارع داخل النسيج الحضري ليست رفاهية جمالية، بل ضرورة اقتصادية وسياحية ونفسية.

تخيّل لو تم تحسين واجهات هذه المزارع، وتنظيم مداخلها، وتصميم أسوارها بطريقة تبرز جمالها الطبيعي… كيف سيكون وقع ذلك على الزوار والمقيمين؟

تخيّل لو وُضعت قوانين صارمة تمنع البناء السكني في هذه الأراضي، وتُصنّف تصنيفًا زراعيًا دائمًا لا يُسمح بتغييره.

بل تخيّل لو أُنشئ برنامج مشترك بين الجهات المعنية وأصحاب المزارع لتحسين جودة الإنتاج، وتجميل المنظر العام، وتفعيل السياحة الزراعية في قلب المدينة.

نعم، بلدية ظفار قد بدأت بخطوات مشكورة، كتجربة إنشاء كشكات بيع أمام بعض المزارع، وهي مبادرة تستحق الإشادة والدعم. لكنها تظل خطوة أولى ضمن مسارٍ أطول نحتاجه بجدية ووعي.

المزارع في صلالة ليست مجرد أملاك خاصة، بل هي إرث جمالي مشترك، هوية بصرية ونفسية واجتماعية، وذاكرة لا يجب أن تُهمل.

نحتاج أن نعيد النظر… أن نرى في المزرعة متحفًا حيًّا، وأن نحميها كما نحمي تراثنا وهويتنا.

من فلسفة ثروان:

“المدينة التي تفقد خضرتها… تفقد روحها، والمكان الذي يُهمل المزرعة، سينسى يومًا كيف تُزرع الحياة.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى