مراد أبو عيشة.. حين تصير الكاميرا مرآةً للروح

بقلم : سيلينا السعيد
في مساءٍ دافئ من أمسيات مسقط، وبين جدران الجمعية العُمانية للسينما، بدا الزمن وكأنه توقف قليلًا، وتحوّلت العدسات من أدوات باردة إلى عيونٍ نابضة بالحياة. هناك، وقف المخرج الأردني مراد أبو عيشة، القادم من قلب الغربة الأوروبية، محمّلًا برائحة يافا وأحلام عمّان، كمن يفتح نافذة تطل على الذاكرة والوطن والروح.
لم يكن لقاؤه في ورشة “عدسة على فلسطين” مجرد جلسة تدريبية، بل أشبه بقصيدة سينمائية حيّة، امتزجت فيها الكاميرا بالفكرة، وانصهرت الحكاية في لغة الضوء والظل. مراد، الذي درس السينما في معهد لودڤيغسبورغ بألمانيا، لم يتعلم فقط كيف تُصنع الصورة، بل كيف تُمسك باللحظة وكأنها ومضة من قدر.
طفولة تنبت في أرض الحكاية
وُلد مراد في الأردن، لكنه ينتمي وجدانيًا لفلسطين؛ لتلك الأرض التي تُعلّم أبناءها أن الحنين يولد قبل الولادة. في طفولته، بدا العالم شاشةً صغيرة مليئة بالأسرار. حدّث مرة أن أول دهشة أصابته لم تكن من كتاب أو لعبة، بل من انعكاس الضوء على جدار البيت، حين شعر أن ثمة قصةً تتسلّل من كل ظل، ومن كل ومضة نور.
تلك الطفولة، المزروعة بين حكايات الجدات وأغاني الصباح، جعلته يرى السينما لا كترف بصري، بل كبحث عن البيت، عن المعنى، عن الإنسان. الوطن، في هذه الحكاية الشخصية، كان دائمًا هناك؛ حلمًا مؤجلًا، لا يُرى إلا في الصور، ولا يُسمع إلا في الحكايات.
من عمّان إلى ألمانيا: الغربة التي أنضجت العدسة
في معهد لودڤيغسبورغ بألمانيا، حيث الشتاء قارسٌ والضوء خافت، صقل مراد حلمه. هناك، اكتشف أن الكاميرا ليست أداة، بل ضمير بصري، قادر على أن يبوح بما لا يُقال. تفتّحت أمامه لغات وثقافات مختلفة، وأدرك أن اللقطة الصادقة لا تحتاج إلى ترجمة؛ تصل إلى كل قلب، مهما ابتعدت الجغرافيا.
جوائز تُشبه الاعتراف
لم يكن الطريق سهلاً، لكنه كان ممهدًا بالشغف. حصد مراد جائزة الأوسكار الطلابية، وشارك بأفلامه في مهرجانات مرموقة: مهرجان البحر الأحمر، ورود آيلاند، وزلين، إلى جانب مهرجانات السينما الأوروبية وبورتلاند.
لكن بالنسبة له، تبقى الجائزة الحقيقية في دمعة مشاهد أو ابتسامة تُولد من مشهد. “السينما فعل محبة، لا سباق نحو الجوائز”، هكذا يقول. وهي أيضًا مسؤولية: أن تمنح صوتًا لمن لا يملكون كاميرا، وأن تروي القصة التي يخاف الآخرون من روايتها.
عدسة على فلسطين: الحكاية كما تُروى بالقلب
في ورشة “عدسة على فلسطين” بمسقط، تحدث مراد عن فلسطين لا كأخبار أو تقارير، بل كأم، كأغنية، كحياة. قال: “الفيلم عن فلسطين ليس عن الحجارة فقط، بل عن الطفل الذي يحلم، والأم التي تنتظر، والعجوز الذي يحكي ليحمي ذاكرة الأرض”.
الورشة كانت مساحة عميقة للحوار، لم يقدّم خلالها مجرد تقنيات، بل تحدث عن “الأمانة” الفنية، وعن الحاجة إلى أن تكون الكاميرا مرآة لوجدان الإنسان، خاصة في أكثر لحظاته هشاشة.
الصوفية في الفن: مراد بين الصورة والروح
في لقائي به بمسقط، بدا مراد أشبه بشاعرٍ يكتب بالكاميرا. قال لي: “السينما لا تكذب. الكاميرا ترى القلب كما هو، وتفضح النوايا كما تفعل القصائد”.
ذكّرني حديثه بشمس الدين التبريزي: “إذا كان القلب نقيًّا، كل شيء يصبح مرآة”. هكذا يلتقط مراد الصور بنقاء يشبه الصلاة، ويصوغ مشاهد تهمس أكثر مما تصرخ.
ما بعد المهرجانات: التلفزيون كنافذة للحكاية
لا يكتفي مراد بالأفلام المستقلة، بل يرى في التلفزيون نافذة للحكاية. يؤمن أن الفيلم، سواء عُرض في صالة عرض فاخرة أو في غرفة ضيّقة، هو دائمًا فعل تواصل. “المهم أن تصل القصة إلى القلب”.
مشاريعه المقبلة تمزج بين الواقع والخيال، من الحكاية الفلسطينية إلى القصص الإنسانية العابرة للجغرافيا. ويأمل أن يتحرر التلفزيون العربي من إيقاعه السريع وأن يتنفس شيئًا من جماليات الصورة.
خاتمة: السينما كأملٍ ضد العتمة
مراد أبو عيشة ليس مجرد مخرج، بل روح تسير بالكاميرا كمن يحمل قلبه. من عمّان إلى برلين، ومن مسقط إلى مهرجانات العالم، يواصل بحثه عن الضوء وسط الظلال.
قال لي في ختام اللقاء، بصوت خافت:
“الفيلم الجيد يشبه الموسيقى… لا يكتمل إلا حين يشاركك المشاهد فيها.”
ربما لهذا، فإن كل فيلم يصنعه هو دعوة للعبور نحو الإنسان، نحو الجمال، نحو لحظة صادقة تُنقذنا من العتمة.