آراء

لنستيقظَ كي يناموا ليلةً واحدةً بسلام

بقلم: د. يوسف حسن

Advertisement

إنّ السهر في الليل أمرٌ مُرهق، تلك اللحظة التي يغالِب فيها النعاسُ العيونَ وتثقل الأجفان، فيطلب الجسدُ راحةً ويعجز الإنسان عن إبقاء عينيه مفتوحتين. هي قاعدة تكاد تكون مشتركة بين البشر جميعاً، إلا في بقعة صغيرة مكتظة بالبشر خرجت عن هذه القاعدة؛ أرضٍ لا يعرف فيها الناسُ طعم النوم، حيث لا فرق بين ليلها ونهارها، وصار النوم فيها كلمةً منسيّة، لا يكاد أهلها يذكرون كيف تُكتب.

هناك، في غزة، يختبئ في صدور الأمهات والآباء وجعٌ لا دواء له. أكثر من عامين، وهم يردّدون تهويداتٍ لم تعد تُدخل أبناءهم في سبات هادئ. أمٌّ تجلس في زاوية بيتٍ مهدّم، تضم طفلها وتغنّي له، لكنها تعلم أنّ الصغير لن يُغمض عينيه من شدّة الجوع. وفي ركامٍ آخر، تداعب أمٌّ شعر صغيرتها المحمومة، تمسّد رأسها علّ النوم يطرق جفنيها، لكنها تدرك أنّ الألم أقوى من أي تهويدة. أبٌ ينتقل من مخيمٍ إلى آخر، ومن مركز “للمساعدات الإنسانية” إلى آخر، لأنه يعرف أنّ النوم لن يزور طفله ما لم يجد له كسرةَ خبزٍ وجرعة ماء.

Advertisement

غزة… التي لم يعد أهلها يسمعون صوتاً مألوفاً سوى دوي القنابل والرصاص المنهمر على رؤوسهم. غزة التي فقدت بيوتها معناها، وصارت المساكن أكوام ركام، تُنصب فوقها الخيام ليقول أهلها للعالم: سنلبس التراب، لكننا لن نغادر ترابنا.

ذات يوم، وقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على المنبر ليعلن “نهاية حرب غزة”، مدّعياً أن وقف إطلاق النار أصبح قاب قوسين. ذهب إلى إسرائيل مبشّراً إياها بالأمان، ثم اتجه إلى شرم الشيخ ليوقّع وثيقة مع حكّام عرب ومسلمين وغربيين تُعلن “نهاية الحرب والقتل”. غير أنّ ذلك العرض الذي سُمّي “سلاماً”، ودُفع ثمنه من جيوب شعوبنا، لم يكن سوى تكرار لأخطاء الماضي.

فكما مرّت طائرة ترامب فوق غزة مروراً عابراً، مرّت واشنطن وتل أبيب فوق التزامات وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات. كان واضحاً أن التاريخ يُعيد نفسه، وأنّ نصيب أهل غزة سيبقى القذائف والقنابل العنقودية التي تجعل ليلهم نهاراً، ونهارهم ظلاماً لا ينجلي.

يزداد وجع خيبة شرم الشيخ حين نتذكّر أنّ العالم احتفل بعد أسابيع بيومٍ لم يكن لأطفال غزة فيه من نصيب: اليوم العالمي للطفل في 20 نوفمبر، كما اعتمدته الأمم المتحدة. يومٌ يمرح فيه أطفال العالم، يلبسون الجديد، يتلقّون الهدايا، يذهبون إلى الحدائق ويلهون بألعابهم.

أما في غزة، فلم يختلف 20 نوفمبر عن باقي الأيام؛ كان يوماً جديداً من الجوع والعطش، ومن غياب الحليب والدواء. يوماً آخر من فقدان أمّ تضمّ طفلها، أو أب يمسح رأسه، أو أخٍ وأختٍ يلعبان معه. لم تكن هناك هدايا ولا حدائق… بل أصوات قصف وظلال خوف.

انتهى يوم الطفل العالمي دون أن يتغيّر شيء في حياة أطفال غزة، دون أن يعلو صوتٌ واحد يقول إنّ عشرين ألف طفل غزّي سُفكت دماؤهم تحت القصف، وإن مئات غيرهم يقضون أيامهم أسرى في معسكرات الاحتلال.

تعلّم أطفال غزة ألا ينتظروا شيئاً من أحد. لكن الحقيقة المُرة هي الخجل الذي يثقل قلوبَنا نحن العرب والمسلمين، لأننا لم نستيقظ في ذلك اليوم—ولو ليومٍ واحد—لنرفع أصواتنا دعماً لغزة؛ لعلّ أطفالها يحظون بليلة واحدة لا ترتجف فيها أجسادهم تحت وميض القنابل، ولعلّ النوم يزور جفونهم ولو مرةً واحدة.

شغلَنا إسعاد أطفالنا… ونسينا أنّ أطفال غزة، على بُعد خطواتٍ منّا، يلعبون مع الموت بدل اللعب بالألعاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى