لماذا لا نُطلق فيها مركزًا أكاديميًا للفنون الظفارية؟

بقلم: معمر اليافعي
حين نتأمل علاقة المدن بالهوية، ندرك أن بعض الأمكنة لا تكتفي بأن تكون مجرد جغرافيا، بل تتحوّل إلى ذاكرة ممتدة، إلى بوصلة تقيس اتجاهات الروح. وظفار، تلك البقعة التي جمعت البحر والجبل والسهل، كانت دائمًا أكثر من مكان؛ كانت مرآةً للوجدان الجمعي، وأغنيةً طويلة تردّدها الأجيال دون أن تُدرك أنها تحفظ بذلك شريانًا من شرايين الحضارة. في ظفار، لا نسمع أصوات الناس فقط، بل نسمع ارتداد التاريخ في حناجرهم، نرى انعكاس القرون في حركات أجسادهم حين يرقصون، وفي أناملهم حين يشكّلون الطين أو يطرّزون الخناجر. ومع ذلك، ما زال هذا التراث العظيم بلا بيت، بلا حضن أكاديمي يحفظه ويعيد تقديمه بلغة العصر.
هل يُعقل أن يبقى هذا الثراء الجمالي والروحي متناثرًا في القلوب، محفوظًا في الصدور، لكنه محروم من مؤسسة تُعلّمه للأجيال القادمة كما تُعلَّم الفيزياء أو الطب؟ إن الفنون الظفارية ليست زخرفة عابرة، وليست ديكورًا للاحتفالات الموسمية، بل هي لغة وهوية، هي النص الموازي الذي كتبته هذه الأرض إلى جانب نصوص التاريخ والسياسة. من رقصة البرعة إلى صناعة المجامر، من أهازيج البحّارة إلى تطريز الخناجر، من الحكايات الشفوية التي ما زال الشيوخ يروونها إلى المعمار الطيني الذي قاوم عوامل الزمن، كل ذلك يشكّل منظومة متكاملة من الفنون، لكن هذه المنظومة بلا إطار جامع، بلا مركز يدرسها ويطوّرها ويحوّلها من إرث محفوظ إلى علم مُدرّس.
إنّ الحاجة اليوم ملحّة لإنشاء مركز يُسمّى: مركز ظفار الأكاديمي للفنون والتراث. ليس متحفًا ساكنًا فقط، بل أكاديمية حيّة، تُحوّل الهوية إلى معرفة، والفن إلى تخصص، والتراث إلى مشروع اقتصادي–ثقافي. تخيّلوا وجود جامعة صغيرة، تُعلّم الموسيقى التقليدية الظفارية، وتعيد كتابة النوتات التي ظلّت شفهية تتناقلها الحناجر دون أن تُسجّل على الورق. تخيّلوا ورشًا لتعليم صناعة المجامر والمناديس والفضيات والنسيج، تُعيد للأجيال الجديدة صلتهم بمهارات الأجداد، وتجعل من الحرف اليدوية مهنة لها مستقبل، لا ذكرى تذبل في الزوايا. تخيّلوا فصولاً دراسية تُوثّق الرقصات الشعبية وتشرح الحركات التعبيرية الخاصة بكل منطقة، كي لا تبقى مجرد عرض فولكلوري بل تتحوّل إلى مادة تُدرّس وتُطوّر وتُستثمر.
هذا المركز لن يكون للتعليم فقط، بل سيكون أيضًا منصة للتدريب والتطوير. سيؤهل الشباب ليكونوا صُنّاع المستقبل، ويقيم ورشًا لتطوير المنتجات التراثية بأسلوب معاصر قابل للتصدير، ويزرع في الأطفال حب الفنون من خلال برامج صيفية تجعل الهوية جزءًا من لعبهم وأحلامهم. سيكون حاضنة للباحثين، تُطلق برامج ماجستير ودكتوراه في الفنون والتراث الظفاري، وتدعو الأكاديميين لتوثيق الحكايات الشفوية قبل أن تذوب مع رحيل حامليها. سيكون مختبرًا للإبداع، ينتج الأفلام الوثائقية والقصيرة التي تُعرّف العالم بثراء هذه الأرض، ويطلق مسابقات تصميم مستوحاة من الفنون الظفارية، ويبني مكتبة رقمية ومرئية تحفظ كل تفاصيل الفن الظفاري، لتكون في متناول كل باحث وكل محب للهوية.
ولماذا ظفار بالذات؟ لأنّها تملك ما لا تملكه مدن أخرى: هوية متكاملة لم تُخترق بعد، فنون لم تُمسّ بعد، كنوز تنتظر من يوقظها. ظفار، بطبيعتها ومجتمعها وتاريخها، تصلح أن تكون المدينة الأكاديمية الأولى للفن الخليجي التقليدي. إن بناء هذا المركز فيها لن يخدم ظفار وحدها، بل سيجعلها منصة إقليمية، تُصدّر الوعي والثقافة والفن إلى الخليج كله، وربما أبعد من ذلك. سيكون بمثابة إعلان أن الفنون الخليجية ليست هامشًا، بل قلبًا نابضًا في الحضارة الإنسانية.
ولعل السؤال البسيط الذي يفرض نفسه: ما الذي يمنعنا من ذلك؟ ليست العقبات في المال وحده، ولا في البيروقراطية وحدها، بل في غياب القرار، غياب النية، غياب الحلم الكبير. فما الذي يضيرنا لو اجتمعنا — أفرادًا ومؤسسات، حكومات محلية وجهات ثقافية، جامعات ومراكز بحث — على إطلاق هذه المبادرة؟ ستكون المشروع الوطني الأجمل، والأكثر استدامة، لأنه لن يقدّم منتجًا يستهلك وينتهي، بل سيقدّم وعيًا متجددًا، وهوية متواصلة.
الفن لا يموت، لكن يمكن أن يُنسى إذا لم نحمه. الهوية لا تختفي فجأة، لكنها تتآكل حين نهملها. إن تركنا الفنون الظفارية بلا أكاديمية، فكأننا نحكم عليها أن تبقى في دائرة الاحتفالات والمناسبات، بينما يمكن أن تكون مدرسة تخرّج المبدعين، ومصنعًا لإنتاج فرص اقتصادية وسياحية وثقافية.
ظفار تستحق أكثر من مجرد مهرجانات موسمية أو فعاليات محدودة. تستحق مؤسسة متجذّرة، تحمل اسمها وتُعطي للعالم درسًا في كيفية تحويل التراث إلى علم، والفن إلى مورد، والهوية إلى رسالة. وحين نؤسس هذا المركز، فإننا لا نكرّم الماضي فقط، بل نبني المستقبل.
من تأملات ثروان: ليست المجامر ما نصنعه بأيدينا، بل ما تحفظه أرواحنا… فاصنعوا مركزًا يُبقي الروح حيّة.
معمر حسين اليافعي (ابن الحصن)
كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر، الهوية، والفلسفة المعاصرة
رئيس تحرير سابق لمجلة “بيادر”
صاحب تجربة طويلة في الإعلام والثقافة والتجارة
مؤسس مشروع “ثروان” – رؤية ثقافية وتجارية لإحياء التراث الخليجي بروح عصرية