لماذا لا تصبح الأغنية العُمانية سيدة الساحة؟

بقلم: معمر اليافعي
الموسيقى ليست مجرد أصوات تتراقص في الأذن، بل هي ذاكرة الشعوب ومرآة للوعي الجمعي. هي ما يحمله الإنسان داخله من نبض الأرض وصدى التاريخ، ويعيد بثّه على شكل نغم. وإذا كان لكل أمة صوت، فإن صوت عُمان لا يزال محصورًا في أصداء الجبال والبحر، ولم يجد بعد مساره إلى العالم.
الموسيقى العُمانية غنية بتراثها المتنوع: البرعة التي تجمع بين الإيقاع والحركة، كأنها رقصة الجسد مع الأرض، والفنون البحرية التي تحمل أنين الموج وصبر الصياد، والفنون البدوية التي تنبع من قسوة الصحراء ودفء المجالس، وحتى الأغنية الحضرية التي تعكس اختلاط الثقافات في الموانئ. كل ذلك يشكّل لوحة موسيقية نادرة، لكنها لا تزال محلية، لا تتجاوز الحدود إلا همسًا.
المفارقة أن ما يملكه العُمانيون من تنوع موسيقي قادر على وضعهم في الصدارة. لكن السؤال يبقى: لماذا لم ننجح بعد في تصدير هذا الصوت؟ الإجابة ليست في غياب المواهب، فالأصوات موجودة والإبداع حاضر، بل في غياب الرؤية المؤسسية. لقد اكتفينا بالاحتفاظ بالفخر المحلي دون أن نحول هذا التراث إلى مشروع ثقافي واقتصادي قابل للحياة عالميًا.
لو تأملنا تاريخ اللبان، لوجدنا أنه لم يكن مجرد عطر، بل لغة دبلوماسية وتجارية عرّفت بالعُمانيين في العالم القديم. كذلك يمكن أن تكون الموسيقى العُمانية: لبانًا صوتيًا يحمل هويتنا إلى العالم. فالموسيقى ليست لهوًا، بل قوة ناعمة تسافر حيث تعجز السياسة والاقتصاد.
الأغنية العُمانية اليوم بحاجة إلى من يعيد صياغتها بلغة الحاضر. لا يكفي أن نسمع البرعة في الأعراس، أو الفنون البحرية في المهرجانات. يجب أن يدخل صوتنا إلى الاستوديوهات الحديثة، وإلى التوزيع العالمي، وإلى التعاون مع موسيقيين عالميين قادرين على منحها أجنحة تحلق بها خارج الحدود. نحتاج إلى منصات رقمية تبث الأغاني بانتظام، وإلى صناعة موسيقية تمتلك الجرأة على التجريب دون أن تفقد أصالتها.
لكن الحلم لن يتحقق بالجهود الفردية فقط. إنه بحاجة إلى أكاديمية موسيقية عُمانية، تكون بمثابة بيت للهوية الصوتية. أكاديمية تُدرّس فنون العزف والغناء والتوزيع، وتوثّق الألحان القديمة، وتعيد إنتاجها بشكل عصري. أكاديمية تحتضن الشباب وتفتح أمامهم أبواب الاحتراف، وتربط بين التراث والحداثة في إطار علمي ومنهجي. لو وُجد مثل هذا الصرح، لكان بمثابة مركز إشعاع موسيقي، ليس لعُمان فحسب، بل للخليج والعالم العربي.
الأغنية العُمانية ليست مجرد فن، بل نص فلسفي مغنّى. هي محاولة لكتابة علاقة الإنسان بالطبيعة، بالبحر والجبال والضباب. حين تسمع البرعة، لا تسمع طبولًا فقط، بل تسمع إيقاع الأجداد وهم يواجهون الحياة بكرامة وبهجة. وحين تسمع الأغنية البحرية، تشعر أنها ليست مجرد لحن، بل صلاة للموج كي يمنح رزقه. وفي كل هذه الفنون يكمن ما هو أعمق من الصوت: الوعي بالانتماء، والحنين الذي يربط الحاضر بالماضي.
ولأن العالم اليوم يبحث عن الأصوات المختلفة، فإن الأغنية العُمانية مرشحة لتكون نافذة جديدة للذائقة العالمية. ما تملكه من خصوصية وروح لا تشبه أحدًا، قد يكون هو المفتاح. لكن الأمر يحتاج إلى من يرى في هذه الخصوصية مشروعًا، لا مجرد تراث يُعرض في المهرجانات وينتهي مع إسدال الستار.
الأغنية العُمانية قادرة على أن تكون سيدة الساحة إذا تحررت من حدودها. فهي لا تحتاج إلى اختراع جديد، بل إلى من يوقظها من سباتها الجميل. تمامًا كما خرج اللبان من جبال ظفار ليصبح لغة كونية، يمكن لموسيقانا أن تكون جسرًا بيننا وبين العالم.
من تأملات ثروان:
“الموسيقى ليست ما نسمعه… بل ما يوقظ فينا ذاكرة لم نعشها بعد. والأغنية التي تبقى محلية، هي أغنية لم تجد بعد جسور السفر.”
معمر اليافعي (ابن الحصن)
كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر، الهوية، والفلسفة المعاصرة.
رئيس تحرير سابق لمجلة بيادر.
صاحب تجربة طويلة في الإعلام والثقافة والتجارة.
مؤسس مشروع ثروان؛ رؤية ثقافية وتجارية تهدف إلى إحياء التراث الخليجي بروح عصرية، ووصل الماضي بالحاضر.