لا يلينُ العزمُ منَّا أَبدا
بقلم : د. صالح الفهدي
سطَّرَ خريِّجو الدورة الثالثة والخمسين للجنود المستجدين المنتسبين للحرس السلطاني العُماني في يومِ تخرُّجهم على أرضيِّة الميدان هذه العبارة التي هي شطرٌ من نشيد الحرس السلطاني العُماني الذي يستهلُّ مطلعهُ “منبع الحقِّ ودستور الهدى ، يا كتاب الله يا قرآننا” ، سطَّروا ذلك القسم “لا يلينُ العزمُ منَّا ابداً” بأسلحتهم وفي ذلك دلالةٌ عميقةٌ تربطُ بين شخصيةِ الجندي وعتاده المادي (السِّلاح) ، وعتاده المعنوي (العزم) ، مقسماً بأنَّ عزمه لا يلينُ أبداً في الذود عن حياضِ الوطن ، وثراهُ ، ومقدِّراته ، ومكتسباته. قسمٌ معنويٌّ عظيمٌ يترسَّخُ في الجنديِّ منذ يومِ تخرُّجه ليصاحبهُ مدى حياته ، ناذراً دمهُ وروحهُ فداءً لوطنه الغالي ، ولسلطانه المعظِّم.
ثم إنَّ هذا القسم (العزمُ الذي لا يلينُ) هو قسم كلُّ عُماني في تقديره لوطنهِ وسلطانه ، فالعزمُ جزءٌ لا يتجزأُ من الشخصية الأصيلة للإنسان العُماني ، فكيف به وهو جنديُّ يسهرُ على أمنِ وطنه ، ويراقبُ الثغور ، ويقدِّم نفسه رخيصةً لوطنه.
بكلِّ فخرٍ واعتزازٍ كانت مشاعري تصاحبُ الحفلَ السنوي ليوم الحرس السلطاني العُماني الذي شُرِّفتُ بحضوره ، فروحُ الحماسةِ ، والوطنيةِ ، والبسالة كانت تسودُ الميدان ، وقد استشعرتُ بها منذ أول ظهورٍ لجنديٍّ من جنود الحرس عند بوابات الدخول إلى ميدان العرض العسكري المُهيب ، ورأيت تلك الروح ماثلةً في إشراقة الوجوه ، وهمَّة النفوس ، وقوة حضور الشخصيات العسكرية في مختلفِ رُتبها.
هذا العرضُ العسكري وحده رايةٌ من رايات السموِّ الوطني ، وعرقٌ نابضٌ بالمحبةِ والاعتزاز الوطني ، كنتُ أستشعرُ خلاله بهيبة الوطن المتجسِّدِ في أبنائهِ الأغرار الذين عركتهم المبادئ السامية قبل أن تؤهلهم التدريبات العسكرية لهذا اليوم المشهودِ في حياتهم ، ليكونوا ممن لا يلين عزمهم أبداً ،فهم سلاحُ الأمانِ للوطن ، وجنود العزَّةِ لأهله ، وحماةَ القيم والمبادئ لهويته الأصيلة.
وهُنا يقفُ الواحد ليتأمَّل بعمق متسائلاً : كيف وصل هؤلاءِ الجنودُ إلى درجةٍ عاليةٍ من الانضباط المتمثِّل ميدانياً في اصطفافهم الحازم ، واستجابتهم الصارمة للأوامر الصادرة من قائد الطابور ، ليُكبر في نفسهِ قيمة الجندية ، والحياة العسكرية التي يبينُ أثرها في حياة الإنسان ليس على الصعيدِ المهني وحسب ، بل وعلى مختلف الصُّعُدُ في حياته ، كما لا يظهرُ على مستواه البدني وحسب بل وعلى المستوى المعنوي الذي هو أعمقُ أثراً ، وأبعدُ نظراً.
لهذه المعاني الجليلة جاءت فكرة الانضباط العسكري لنخبة من طلاب المدارس ، لما لذلك من نتائجَ عميقة الآثار في ميادين الحياة ، حيثُ لا تكون شخصية الطالبِ هي نفسها كما ستكون بعد الانضباط العسكري الذي نشهده في حياة الإنسان العسكري حتى بعد تقاعده من تقديرٍ للوقتِ ، وحسمٍ في قضاءِ المصالح ، وحبٍّ للعمل ، فروح العسكرية كامنةً فيه لا يتنصل عنها ، وهي ملتصقةٌ به لا تفارقه ، وهُنا يصدقُ القسم “لا يلينُ العزمُ منَّا أبداً” فالعسكري روحهُ متَّقدة ، وثَّابةً ، يشعُّ من عينيه البريق ، ويكرهُ الخمول ، والدعة ، ويحبُّ العطاء المستمر ، والعملَ الدؤوب.
بحماسةٍ عاليةٍ ردَّد الجنود المستجدون نشيد الحرس السلطاني العُماني وهو نشيدٌ يحملُ في طياتهِ المعاني العظيمة ، والقيم الجليلة ، ليكون بمثابةِ بيانٍ عطاءٍ وطنيِّ يحمله كل واحدٍ منهم قسماً في روحه ، فتحيَّة صادقةً لهم ، وتحيَّةً عالية التقدير والعرفان لجنود عُمان البواسل الذين سطَّروا ملاحم الفخر والاعتزاز ، والبذل والعطاء لعُمان وسلطانها ، فهم بحق مصدرٌ من مصادر الوطنية ، ومجدٌ من أمجادِ الوطن.