د. صالح الفهدي

سلطنة عُمان
آراء

لا توجدُ منطقةٌ وسطى

بقلم : د. صالح الفهدي

Advertisement

رُفضتْ الخارطة بحجَّة أن لا حلَّ لنقطةٍ محدَّدة ، استسهلَ المهندسُ المشرف رفضها دون أن يلتقي بصاحبِ المصلحة فيناقش معه الحلول الوسطى فيها لكي يتم اعتمادها ، فكان الرفضُ هو الأفضل عن “صداع الرأس” ، لكن صاحبَ المصلحة حين نظرَ إلى الخارطة وجد لها حلَّاً فأَشارَ للمهندس المشرف به ، فقَبِلَ به ، وتم اعتماد الخارطة! هُنا تَسَاءَلَ صاحبُ المصلحة في نفسه : أَلم يكن المهندس المشرف قادراً على مناقشتي والوصول إلى الحل الذي وصلتُ إليه وحدي؟ ألم يكن المهندس المشرف قادراً – لو أنه أمعنَ النظر في الخارطة- برؤية الحلِّ الذي رأيته وأنا لستُ متخصصاً في الأمور الهندسية؟

في جهةٍ أُخرى يقفُ مستثمرٌ على رأس موظف لينهي إجراءات استثماره ، لكن الموظف يأبى القيام بذلك بحجَّة أن “النظام معطَّل” ، يلحُّ عليه المستثمر : طيب ، خذ الأوراق وانهِ الإجراءات ، فأنا على أُهبةِ سفر ، غير أنه لا يجدُ سوى جوابٍ واحدٍ أبتر من الموظف : “هذا نظامنا إذا عاجبنَّك أهلا وسهلاً وإذا ما عاجبنك مع السلامة”..! مرة أُخرى لا توجد منطقة وسطى.

Advertisement

*إِذن ما السبب؟*

السبب في نظري هو أن عقليات البعض قد بُرمجت بين لونين هُما : الأَسود والأبيض ليس بينهما لونٌ آخر! ، ولو أن هذه العقليات قد أمعنت الفكر لتوصَّلت إلى أن الأبيض ليس لوناً واحداً وإنَّما يتدرَّجُ في عدَّة ألوان كلَّها أبيض ، والأَسودُ كذلك ، إذن فهناك متَّسع للمناورة حتى في اللونين : الأَبيضِ والأَسود.

لقد سارَ هؤلاءِ -ظاهرياً- على سياق ما قاله أَبوفراس  الحمداني:

“وَنَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِندَنا // لَنا الصَدرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبرُ”.

لكنه  الشاعر قاله في سياق الإعتداد بالنفس ، والشجاعةِ ، والنخوة ، ولم يقله في سياق خدمة الناس ، وتسهيل مصالحهم ، والتيسير عليهم!.

في المقابلِ وعلى عكسِ المثالين السابقين ، تنظرُ جهة ثالثة بفكرٍ مرنٍ إلى “المنطقة الوسطى” وتبحث مع صاحب المصلحة الذي يطلبُ ترخيصاً للمضي قُدماً في مشروعه الذي يخشى عليه من التعطُّل والتأخر ، ومع أنَّ لديها ملاحظات عليه ، إلا أنها تمنحه “ترخيصاً مؤقتاً” ومهلةً معيَّنة ليعالج الملاحظات.

نقفُ هُنا بين  أكثرية تعمل وفق منطق “لا يوجد حل وسط” وبين أقلية تعمل وفق منطق “هناك دائماً حل وسط” ونجدُ أنَّ الأولى لم تسعَ في الأصل للبحث عن الحلِّ الوسط ، لأنها لا تريدُ ذلك ، بل تريد إعاقة مصالح الناس ، ولا تريد إشغال نفسها وإجهادها في البحث عن المنطقة الوسطى التي يقع فيها الحل لأن ذلك يعني أنها ستبذل وقتاً أكثر ، وتتحمَّل مسؤولية إزاء ذلك ، لهذا فإنها تؤثر منطق “الأبيض أو الأسود” ولا حلَّ غيرهما. يُقال “إذا خلصت النيَّة وضح الطريق” ما يعني أنه لو كانت نيتها خالصة لخدمة مصالح الناس ، ومساعدتهم لوجدت الطريق واضحاً كما وجدت الجهة الأُخرى التي منحت الترخيص المؤقت مع وجود الملاحظات.

النيَّة الخالصة هي الوسيلة التي تُخرج “الحل الوسط”، وهذا ما يؤكد القرآن الكريم في سورة النساء (35) في قول الحق سبحانه وتعالى “وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا” إذ نرى تجلِّى النيَّة الخالصة للبحث عن حل وسط في “إن يريدا إصلاحاً” أي الحكمين ، يصلان حينها إلى الحل الوسط “يوفق الله بينهما”.

الحل الوسط هو إحدى المشكلات التي يعاني منها المتعاملون مع بعض الجهات الخدمية ، فهي تؤثر الرفض على الحل الوسط الذي فيه سعة ورخصة ، وهنا نتساءل : إذا كان الله قد أعطى لعباده السعة في العبادة ، فكيف لا يعطي العباد لبعضهم البعض السعة في المعاملات؟!

في نظري يعودُ الأمرُ إلى عدَّة أمور : دينية ، وأخلاقية ، ووظيفية. فالدينية منها أن الموظف لا يعي أن “الدين المعاملة” فيقصرهُ على الصلوات ، ولا يعي ما قاله نبيه الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام :”إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه” وأن راتبه الذي يتقاضاه لا يحلُّ إلا بالإِخلاص لوجب عليه أن يجتهد في تقديم الحل الوسط بدلاً عن الرفض لأية معاملة. أما الاجتماعية فإنه لو شعر بأن طالب المصلحة إنما هو فردٌ من أسرة المجتمع الذي ينتمي إليه فإنه سيشعر بمعاناة الرفض والمماطلة والتسويف التي سبَّبها له ، والمسلمون كما قال نبينا الأكرم عليه السلام كالجسد الواحد إذ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. أما الوظيفية : فإنه وجد في وظيفته لخدمة الناس ، والخدمة تقتضي العمل بكل وسيلة للتيسير على مصالحهم ، ودفع جهودها قدماً وليس إعاقتها. كما أنه لو تمت مراقبته ومساءلته ومحاسبته لما قدَّم الرفض على الحل الوسط في أكثر المصالح التي تقع بين يديه.

العقليات الجامدة التي لا ترى الحل الوسط في قضاء مصالح الناس إنَّما هي عقليات معطِّلة للنمو والتقدم في الوطن ، وهذه لا يمكن لأي وطن الإعتماد عليها في حركته لأنها تعيده إلى الخلف ألف خطوةِ كلَّما تقدم خطوة! ، أما العقليات التي تبحث دائماً عن الحل الوسط الذي يصبُّ في مصلحة الوطن فهي الأنسبُ والأصلح لنماء الوطن.

المصدر : الرؤية

https://alroya.om/p/330044

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى