آراء

كيف تنازلنا عن لُغتنا؟!

بقلم : د. صالح الفهدي

Advertisement

في أحد المكاتب الاستشارية وبعد أن أنهينا الحديث مع إحدى المهندسات التي كُنا نظنَّها طوال الوقت من الجنسية اللُّبنانية ، قالت دون أن نسألها لأن الأمر بدا محسوماً لدينا: أنا سيرلانكيَّة!!، حينها فتحنا أعيننا دهشةً ، ولم نكد نصدِّق أنها*سيرلانكيَّة بلسانٍ لُبناني*! فسألناها : كيف ذلك؟ قالت : عملتُ في لُبنان عدَّةَ سنوات ولهذا أتحدَّث بلسانهم. تذكَّرتُ عندئذٍ مشاهد العاملات الآسيويات والأفريقيات في لُبنان وهنَّ يتحدَّث باللسان اللُّبناني الذي لا يفرقُ بينه وأبناء لُبنان.

هُنا تساءلت : كيف يقضي الوافدُ في مجتمعاتنا الخليجية جُلَّ عمرهِ ، وهو يتحدَّث بلغةٍ مكسَّرةٍ لا هي بعربيةٍ ولا بأجنبية ، وإِنَّما هي من اختراعنا نحن؟! فلا تحدَّثنا بلغتنا إليه ، ولا حدَّثناهُ بلغته ، بل اخترنا لغةً هجينةً مركَّبةً ، كلماتها معوجَّة ، وحروفها مكسَّرة ، وعباراتها ملفقَّة!!

Advertisement

لقد حَرص اللُّبنانيون على لهجتهم فتعلَّمها الأجنبيُّ منهم بإتقان ، وتنازلنا نحنُ عن لهجتنا فأردنا أن نصل والأجنبي إلى طريقٍ وسط ، فكان هذا الطريقُ غير معبَّد ، بل مليءٌ بالحفرِ ، والمطبَّات ، والأحراش!

قد تكونُ نيَّتنا في ذلك طيِّبة ، وهي أن لا نكلِّفَ الأجنبي عناء فكِّ رموز لغتنا ولكننا أسأنا في ذلك أيَّما إساءة ، فلا تكلَّمنا بلغتنا العادية أمامه وكسبنا بذلك ملايين من المتحدثين بلغتنا العربية أو بلهجاتنا العربية التي تتفاوتُ في نطقها وتشتركُ في كلامها غالبا ، ولا نحنُ تعلَّمنا لغته فكسبنا لغةً أُخرى إلى لغتنا؟!

في إحدى مناجر الخشب ، كان الزبون يتحدَّث إلى الصيني مالك المنجرة بذات اللغة الهجينة المكسَّرة التي يتحدَّثُ بها مع الآسيوي وهو يشرحُ لهُ ما يريدُ بمشقةٍ ومعاناةٍ ، فلمَّا انتهى ردَّ عليه الصيني المسلم بلغةٍ عربيَّة فصيحةٍ ، بل أنه روى له حديثاً شريفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : “المسلمون عند شروطهم” ففغر الزبون فمه ، وجحضت عيناه وهو لا يكاد يصدِّق ما يسمع ، وليس ذلك فحسب بل وشعر في نفسه بالدونية فكيف له وهو العربيِّ أن يتحدَّث بلهجةٍ مقطَّعة الأوصال ، ملفَّقة الكلمات ، وكأنها مصنوعةٍ من الخردةِ في إحدى الصناعيات ، في حين أن صينياً مُسلماً يتحدَّث بلغةٍ عربيَّة فصيحةٍ مضمِّنا كلام بحديثٍ شريف؟!!

تنازلنا عنْ لغتنا أرخص فينا قيمة لغتنا ، وهي رأسُ هويتنا ، وميِّزةُ خصوصيتنا ، فأصبحَ الكثيرون منَّا يتحدَّثون بالإنجليزية دون مناسبةٍ مع بعضهم البعض ليس لأنهم يتقنونها بل لأنهم أرخصوا لغتهم فهانتْ عليهم ، في مقابل تفضيلهم الأجنبية على لغتهم الأم لأنهم يشعرون -وهماً- أن الأجنبية علامة على التَّحضُّر ، وإشارة إلى العصرنة ، ولكن ذلك ليس إلا نكراناً للسانهم الأم ، وجحوداً لهويتهم الأصل!.

لِمَ يحرصُ أجنبيٌّ على التحدِّثِ باللغةِ العربيةِ الفصيحة بعد أن يبذل مشقَّةً في تعلُّمها ، أمَّا ابنها -ابن العربيَّةِ- فيراها غريبةً ، شاذَّةً على لسانه ، وهي أصلُه ، ويراهُ المجتمعُ متصنِّعاً ، متكلِّفاً إن تحدَّث بها؟!!*لقد سألتُ ألمانيَّا يتحدَّثُ اللغة العربية عن السَّبب الذي جعلهُ يتعلَّمها فقال :”ذلك سرٌّ إلهي أَودعهُ اللهُ في صدري”، الله ما أجملها من عبارة ، ويضيف : “لقد أحببتُ العربيَّة ، وأحببتُ كتابةَ حروفها” ووجدتهُ قد كتبَ في بطاقةِ أحد الطلَّاب عبارة : “بارك الله فيك” إلى جانبِ عبارات كتبها بعض العُمانيين بالإنجليزية!.

إن لدينا من العُمانيين أو غيرهم في المجتمعات الخليجية من يتحدَّثون في بيوتهم مع أبنائهم باللغة الإنجليزية ، ولقد شهدتُ على ذلك ، ليس بسبب العاملات الأجنبية وحسب ، بل وحرص بعض الآباء والأمهات على أن يُرضعوا أبناءهم اللغة الأجنبية في نعومة أظفارهم ، وهم لا يتصوَّرون كيف ستكون عقلية أبنائهم أو توجُّهاتهم حين يكبرون ،*فاللغةُ احتلالٌ للعقلِ ، تُملي عليه الأفكار ، والتوجُّهات ، والسلوكيات ، ثم يصبحُ مغترباً ، مسلوبَ الثقافة ، بل مسلوب الانتماء والولاء!!

حدَّثني أحد الإنجليز جنسيَّةً العُمانيين قلباً وروحاً يقول : أنني وبعد أن أصبحتُ أتحدَّث اللهجة العُمانية بإجادة ، قُلتُ لنفسي : “كيف أتحدَّث باللهجةِ العمانيةِ وأنا غيرُ مسلم ، فدرستُ الإسلام في ستةِ أشهرٍ ، ثم أعتنقتُ الدين الإِسلامي!”. أرأيتم فعل اللغةِ في الإِنسان؟ هذه رسالة لعل بعض أولياء الأمور أن يعتبروا منها، ويعلموا الأثر المترتِّبَ على دفع أبنائهم دفعاً لإتقان الأجنبية على حساب لغتهم الأم العربيَّة!.

لقد رأينا أقليات في بلاد الغربِ لم تُستلب منهم لغتهم الأم بل حافظوا عليها في مجتمعات الأقلية ، فلم تُنسهم السنين الطوال ، واختلاطهم بالمجتمعات الأجنبية لغتهم العربية ، في حين أن البعض في مجتمعاتنا العربية قد تغرَّبوا ، وليس ذلك إلا إنقاصاً من أنفسهم ، يقول الشاعر الصيني Chen Lei (b.1939) مخاطباً الذي يتحدَّث الإنجليزية :

خُذ نظرة : تعال إلى أمريكة

وتحدَّث بالشنغاهية ، أو الكانتونية ، أو البكِّينيَّة

هل يكترثُ أحدٌ بتحدِّيك للتحدُّثِ بها؟!

انظر إذن : لماذا أنت وحدك من يتصرَّف هكذا؟

يمكنك أن تخدش لحمي

لكنك لا تستطيع أن تسلبني حقِّي في لغتي

صوتي هو إحساسي

لغتي هي تفكيري.

تنازلنا عن لغتنا تعني تنازلنا عن هويَّتنا بصراحةٍ ووضوح ، وكلُّ من لا يضعُ قيمة الأفضلية للغته التي نشأ عليها آباؤه وأجداده فهو متنكِّرٌ لهم، جاحدٌ للسانهِ، مضيِّعٌ لهويته.

علينا ان نتحدَّث مع الآسيوي بلغتنا اليومية دون تكسيرٍ ، ولا تغيير ، كما يتحدَّث اللبنانيون وغيرهم معه ، وعلينا أن نعلِّم أبناءنا أن لغتهم الأم تعني هُويتهم فإِن ضيَّعوها فقد ضيَّعوا أنفسهم ، أما لمن يحسبُ أنني أدعو لعدم تعلُّم لغةٍ أُخرى فأقول : بل أنَّ الأمر محسومٌ في قيمةِ تعلِّم لغةٍ أُخرى خاصَّة الإنجليزية فهي اللغة الرسمية الأُولى ، ولكن معقل كلامي هو أن باختصار أن نتوقف عن التحدث بلغةٍ هجينة مع الآسيوي ، وأن نتحدث مع متحدثي الإنجليزية بها إن كُنا نستطيع ، وأن نعلم أبناءنا أفضلية لغتنا العربية على كل لغةٍ في العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى