آراء

كازاخستان.. ضمير العالم الصامت: كيف تحوّلت أستانا إلى منصة للأديان وملاذ للإنسانية

بقلم : سيلينا السعيد

Advertisement

في عالم تتكاثر فيه الشروخ وتضيق فيه المساحات الآمنة بين الطوائف والعقائد، برزت كازاخستان، تلك البلاد في قلب آسيا الوسطى، كصوت للرجاء لا للانقسامات، كمساحة تجمع بين التنوع لا تفرق بينه. ليس مجرد موقع جغرافي بين الشرق والغرب، بل تجربة فريدة لحوار ديني وإنساني.

منذ استقلالها عام 1991، واجهت كازاخستان تحديات كبيرة لإعادة تعريف هويتها الوطنية والعالمية. اختارت “الدبلوماسية الأخلاقية” كأسلوب، تقوم على السلام الداخلي المبني على التعددية، والحياد الإيجابي في السياسة الدولية، والقيادة عبر الحوار لا الهيمنة.

Advertisement

تجسدت هذه الرؤية في تأسيس مؤتمر قادة الأديان العالمية والتقليدية الذي انطلق عام 2003 في العاصمة أستانا (التي أصبحت نور سلطان لاحقًا)، والذي لا يجمع فقط رجال دين من مختلف الأديان، بل يمثل منصة للحوار الإنساني العميق.

بداية المسار: من مبدأ إلى منصة

في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، وفي زمن استُغلت فيه الخطابات الدينية لإثارة الخوف والكراهية، اختارت كازاخستان الاتجاه المعاكس، فجمعت ممثلي الأديان الرئيسية من كافة القارات تحت سقف واحد، ليس ليتصارعوا، بل ليبنوا جسورًا من التفاهم.

الرئيس المؤسس نور سلطان نزارباييف صاغ جوهر الفكرة قائلاً: “لا نريد أن نذوّب الأديان في بعضها، بل نريد تعليم العالم أن التنوع ليس تهديدًا بل ثروة”.

تم اختيار قصر السلام والوئام، المبنى الهرمي الزجاجي الذي صممه نورمان فوستر، رمزًا لهذه الوحدة، حيث القاعدة تمثل التنوع والاختلاف، والقمة ترمز إلى الهدف المشترك: وحدة البشرية.

مؤتمر قادة الأديان: حوار لا صراعات

شارك في المؤتمر ممثلو الإسلام (من السنة والشيعة)، والمسيحية (الكاثوليكية، الأرثوذكسية، البروتستانتية)، والبوذية، واليهودية، والهندوسية، والشنتوية، والطاوية، وغيرهم.

لم يكن الهدف إلغاء الفوارق، بل الاعتراف بها مع التمسك بكرامة الإنسان واحترام الآخر، تحت شعار “أنا أراك، وأحترمك، وأرغب في أن أسمعك”.

مع مرور الدورات، تطورت المبادرات والمواضيع التي تناقشها القمم، لتشمل تحديات العصر مثل:

دور الدين في زمن العولمة.

تأثير الإعلام في تشكيل صورة الأديان.

دور الشباب في بناء الحوار.

العلاقة بين الدين والتنمية المستدامة.

التحديات التي فرضتها جائحة كوفيد-19 على الإيمان والمجتمع.

وثيقة المبادئ: ميثاق أخلاقي عالمي

في الدورة الثانية (2006)، تم التوصل إلى “وثيقة المبادئ العامة للحوار بين الأديان”، التي أصبحت إطارًا أخلاقيًا معترفًا به، تقوم على:

حرية الاعتقاد دون إكراه.

إدانة العنف باسم الدين.

التربية على التسامح.

احترام الحريات الدينية والثقافية مع الحفاظ على سيادة الدول.

التعاون لمواجهة الجهل والفقر كمسببات للتطرف.

هذه الوثيقة ليست مجرد نص قانوني، بل نبض جماعي للضمير الإنساني، وقد تم تحديثها لتشمل أخلاقيات الإعلام، حماية التراث الديني، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي.

كازاخستان.. جسر بين الحضارات والأديان

تحتضن كازاخستان مجتمعًا متنوعًا دينيًا، حيث يشكل المسلمون حوالي 70% من السكان، وتتعايش مع طوائف مسيحية وبوذية ويهودية وهندوسية أخرى بانسجام نسبي.

دورها في العالم الإسلامي يتسم بالاعتدال والتسامح، خاصة بفضل المذهب الحنفي، ودعمها المستمر للحوار السني–الشيعي، مع استضافة كبار العلماء، مثل شيخ الأزهر.

كما أنها نقطة التقاء هادئة للكنائس المسيحية المختلفة، وحظيت بزيارة البابا فرنسيس في 2022، الذي أشاد بالتجربة الكازاخية في إدارة التنوع دون عنف.

الأديان الأخرى وجدت في كازاخستان أرضًا محايدة تحترم كل المعتقدات وتتيح لها الدفاع عن السلام، مثل الرهبان البوذيين والحاخامات اليهود والهندوس.

الأثر الدولي: تأثير الحوار على السياسة والدبلوماسية

لم يكن مؤتمر قادة الأديان حدثًا بروتوكوليًا فحسب، بل تحول إلى قوة ناعمة مؤثرة في السياسة الدولية:

الأمم المتحدة، اليونسكو، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا أدرجت توصيات المؤتمر في برامجها لمكافحة التطرف وتعزيز التسامح.

الإعلام الدولي سلط الضوء على أستانا باعتبارها “عاصمة العالم الأخلاقي الجديدة”.

في أوقات التوترات الإقليمية، مثل الأزمة الروسية–الأوروبية أو الصراعات في الشرق الأوسط، ساعد المؤتمر في خلق حوارات دينية بين أطراف متنازعة.

أكاديميًا، أصبح المؤتمر موضوع دراسة في جامعات مثل جورجتاون وكامبريدج، باعتباره نموذجًا فريدًا لحوار الأديان كأداة توازن دولي.

تحديات وحلول الدورة الثامنة 2025

تُعقد الدورة الثامنة في خضم عالم مضطرب: حروب متصاعدة، تصاعد التطرف، ونمو التكنولوجيا وتأثير الذكاء الاصطناعي.

المحاور الرئيسية لهذه الدورة تشمل:

الإيمان كأداة سلام، لا سلاح سياسي.

البيئة كأمانة دينية مشتركة.

الذكاء الاصطناعي واختبار الأخلاق في زمن الآلة.

دور الشباب في بناء جسور الحوار.

الهجرة والنزوح من منظور إنساني.

ستضم الدورة مشاركين من كبار القادة الدينيين، وشبابًا، بالإضافة إلى ممثلين عن مجالات التكنولوجيا لمناقشة موضوع “هل تصلي الآلة؟” وهو سؤال يعكس التحديات المعاصرة.

خاتمة: أستانا قلب الإنسانية

في عالم يعجّ بالصراعات والاضطرابات، تبرز كازاخستان كرمز للقيادة الأخلاقية، التي لا تصرخ ولكنها تسمع.

هذا المؤتمر لم يكن مجرد لقاء دبلوماسي، بل ترجمة حية لعبارة “الإيمان ليس مشكلة بل حل”. حيث يلتقي المختلفون ليس لإقناع بعضهم بعضًا، بل لإعلان أنهم ليسوا أعداء.

وفي ظل صخب السياسة الدولية، تظل أستانا، بقصرها الزجاجي وروحها الإنسانية، مكانًا تتوهج فيه شمعة الحوار، لتضيء درب السلام ولو بخطوات صغيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى