آراء

قابوس بن سعيد .. حين يصمت القائد ويتكلم التاريخ

بقلم: معمر اليافعي

Advertisement

في حياة الشعوب، هناك لحظات لا تُقاس بالزمن، بل تُقاس بالأثر. لحظات يتوقف فيها الصخب ويسود الصمت، لا لأن الزمان توقّف، بل لأن التاريخ قرّر أن يتكلّم. وكان رحيل السلطان قابوس بن سعيد إحدى تلك اللحظات التي لا تُنسى.

لم يكن قابوس رجلًا عاديًا، ولا كانت قيادته حكمًا قائمًا على النفوذ أو السطوة. لقد كان مشروعًا فكريًا وروحيًا وإنسانيًا تجسّد في شخصٍ واحد؛ رجل حمل بلاده من عتمة العزلة إلى نور الحضور، ومن غياهب النسيان إلى موقع الفاعلية. كان مدرسة نادرة تدرّس الصمت كفن، والرؤية كاستراتيجية، والاتزان كقوة، والهوية كرسالة لا تقبل التفريط.

Advertisement

وُلد السلطان قابوس في زمنٍ كانت فيه عُمان غائبة عن الواجهة، مثقلة بأعباء التقليد والعزلة. لكنه لم يرَ في ذلك قدرًا محتومًا، بل نداءً للنهضة. لم يبدأ بالشعارات، بل بدأ من الداخل: من الإنسان، من بناء العقل، من تشكيل الوعي. لم يكن أمامه وفرة من الخيارات، بل كان أمامه واجب، والواجب عنده لا يُؤدى بنصف قلب.

منذ اللحظة الأولى، أعلن مشروعه بوضوح: دولة حديثة لا تُفرّط بجذورها. فلم يرَ في الحداثة خصمًا للأصالة، ولا في التطور قطيعة مع التراث، بل آمن أن التوازن هو المعادلة الأصعب، لكنها السبيل الأصدق.

في الداخل، شيّد دولة المؤسسات، وجعل التعليم أولوية، وفتح الجامعات، وشق الطرق، وأطلق المستشفيات، واهتم بأدق تفاصيل المواطن من أعالي الجبال حتى ضفاف البحر. كانت التنمية في عهده شاملة: عمرانية، واقتصادية، وثقافية، لكنها في جوهرها تنمية إنسان.

أما في الخارج، فصاغ سياسة خارجية فريدة في محيط عربي متقلب. لم تكن عُمان صدى لأحد، بل كانت صوتًا مستقلًا متزنًا، يوازن بين الحكمة والحياد، بين المبادئ والمصالح. لم يدخل سباقات التحالفات، بل جعل من بلاده واحة للوساطة والعقلانية.

لم يكن قابوس زعيمًا محليًا فحسب، بل قائدًا بأفق حضاري وروحي. حين يتحدث، تُصغي له العواصم، لا خوفًا من سلطته، بل احترامًا لحكمته. وحين يصمت، يشعر العالم أن شيئًا ما يُفكّر بصمتٍ عميق.

ولأن الثقافة كانت ركيزة من رؤيته، لم يكن التراث عنده متحفًا جامدًا، بل حياة نابضة. شجّع الفنون، حفظ الموسيقى التقليدية، دعم الشعراء، أنشأ المراكز الثقافية، وجعل الهوية العُمانية تتجذر داخل قلب الحداثة. لم يحبس الثقافة في الماضي، بل أطلقها نحو المستقبل.

وفي زمنٍ كانت فيه بعض الدول تهدم ما تبقّى من الإنسان، كان قابوس يبنيه لبنةً لبنة، ومدرسةً بعد أخرى، وعقلًا بعد عقل. كان يؤمن أن القائد ليس من يُحكم الناس، بل من يحررهم من الجهل والخوف والضياع.

حتى في مرضه، ظل صامتًا كما عُهِد. لم يطلب شفقة، ولم يشكُ، بل واجه التحدي بكبرياء الحكماء وهدوء العظماء. وحين غاب، لم تغب صورته. بقي حيًّا في القلوب، وراسخًا في الذاكرة، ونموذجًا في السلوك والقرار.

واليوم، وبعد سنوات من رحيله، لا يزال اسمه حيًا في تفاصيل الحياة العُمانية: في نشيد الصباح، في عبق اللبان، في ملامح النهضة، وفي كل جيلٍ ينهض ولا ينسى من زرع.

لكن السؤال الذي لا بد أن يُطرح: كيف نرث هذا الإرث؟ هل نكتفي بالتمجيد العاطفي؟ أم نحوّله إلى التزام وطني وأخلاقي؟ هل نُبقي قابوس في الصور والمناسبات؟ أم نحمله في مناهج التعليم، وقرارات التنمية، ورؤى المستقبل؟

لقد ترك السلطان قابوس خلفه ما هو أكبر من مؤسسات؛ ترك نموذجًا للقائد الذي لا يسعى للمجد الشخصي، بل لنهضة وطنه، والذي لا يرفع صوته، بل يرفع وعي شعبه.

رثاء القائد لا يكون بالبكاء، بل بالبناء. ولا بالتمجيد، بل بالاستمرار. فقابوس لم يكن “رجل مرحلة”، بل بداية مرحلة يجب أن تتواصل.

رحم الله السلطان قابوس، وجعل من حكمته قبسًا يُنير دروب من يأتون من بعده.

ومن حكمة ثروان: “حين يُولد القائد في صمت، ويقود في حكمة، ويرحل في مهابة… فإن الوطن لا يُيَتَّم، بل يُتوَّج بذاكرته.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى