في زمنٍ أصبحت فيه أمة “إقرأ” لا تقرأ.. تأملات ما بعد تشوهات الصورة!

بقلم: هيام سلوم
في زمنٍ يعاني فيه الدور الثقافي من تراجعٍ كبير، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ مؤلم حيث أصبحت أمة “إقرأ” – التي كانت في الماضي حاملة رسالة العلم والمعرفة – عاجزة عن تفعيل علاقتها بالكتاب. وعلى الرغم من هذا الوضع، تبرز بعض النماذج الإنسانية التي ما زالت تمسك بالكتاب وتقرأه بإنصات، مُظهرة بذلك مثالًا نادرًا في عالم اليوم الذي يواجه انفجارًا متسارعًا في الخرافات العولمية التي تتسلل لتُفكك قيمنا.
كنت على علاقة وثيقة مع سيدة سورية نهمة للقراءة، كان لروحها المضيئة ووعيها الفريد تأثيرٌ عميق عليّ. ورغم أعباء الحياة وضغوطها، كانت تُكرس وقتها في تلاوة القرآن الكريم مع شروق الشمس، وتُترجم هذه اللحظات الروحية إلى عزيمة لا تفتر وتأملات في سطور القرآن السماوية. جعلت القراءة جزءًا أساسيًا من حياتها اليومية، فكانت تُغذي عقلها وروحها بما يعود بالنفع عليها وعلى من حولها.
هذه السيدة كانت تجسد ظاهرة نادرة في عصرٍ يعاني من الاستنزاف الفكري، حيث تهيمن التفاهات على كل شيء ويغرق المجتمع في جهلٍ ثقافي مقلق. وقد أصبحت الأمة في حالة من تشتتٍ فكري، مما يجعل عقولها تُعطل تحت وقع الأجندات التي تروج لها وسائل الإعلام المختلفة.
تتطلب هذه المرحلة مسؤولية ضخمة على المفكرين الحقيقيين الذين يظلون قلة، في مواجهة تدهور حقيقي في أفق الفكر والعقل. ورغم ذلك، يبقى دور المفكرين هو تذكير الأمة بماهية القراءة وأهميتها في الوعي والنهضة، ومواصلة الجهود لنشر هذه الرسالة في مواجهة التحديات. فنداء “أمة إقرأ” لم يكن مجرد دعوة عابرة بل كان دعوة لتثبيت القراءة كوسيلة أساسية للتطور الفكري والوصول إلى الخلاص.
وفي هذه الأوقات العصيبة، تبقى القراءة الأداة الوحيدة المتاحة أمام الفرد ليتمكن من تطوير فكره، حيث كانت المكتبات ومعارض الكتب في الماضي شاهدة على إقبال الناس على العلم والمعرفة. أما اليوم، فقد أصبح الكتاب شيئًا ثانويًا في حياة كثير من الأسر العربية التي تخصص ميزانياتها للأطعمة الجاهزة والمشروبات الغازية بينما لا تملك المال لشراء كتاب يُغذي الفكر.
لكن الأسباب وراء هذا التدهور لا تتعلق فقط بالأمور المادية، بل تكمن أيضًا في التحديات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الأفراد في محيط مليء بالقيود والضغوط. كما أن غياب دور المعلم الأصيل والمفكر الحقيقي قد أسهم في تدهور العملية التعليمية، مما أدى إلى تحول التعليم إلى مجرد عملية قسرية تهدف إلى تحصيل الدرجات فقط دون الاهتمام بالعمق الفكري.
والأمر لا يقتصر على التعليم الأكاديمي فقط، بل يمتد ليشمل التعليم الديني. يجب تبني مقاربة شاملة في تعليم القيم الدينية، تقوم على الفهم العميق وتبتعد عن أسلوب الحفظ الجاف للنصوص. علينا أن نُعلم أبنائنا القيم الإنسانية من صدقٍ وإخلاص، ليتمكنوا من اختيار المعرفة التي تنير دروبهم.
وفي الختام، يمكننا الاقتباس عن الكاتب الروسي أنطون تشيخوف الذي قال: “في المجتمعات الفاشلة، يوجد ألف أحمق مقابل كل عقل راجح.” فإن هيمنة التفاهات والنقاشات السطحية على الساحة العامة تشير إلى أزمة حقيقية في المجتمع. في هذا السياق، يبقى الكتاب والمؤلفون في الظل، بينما تستمر الأغلبية الجاهلة في تحديد مصيرنا.
