فيروز وزياد الرحباني … جسر لا يُهدم حتى بعد الرحيل

بقلم: سيلينا السعيد
في صباحٍ بيروتي ثقيل، رحل زياد الرحباني، الابن الذي كان الامتداد الطبيعي لمدرسة الرحابنة، والموسيقي الذي حمل إرثًا هائلًا من الإبداع والتمرد والصدق. لم يكن خبر وفاته مجرد عنوان عابر في شريط الأخبار، بل كان كسرًا في قلب جيلٍ تربّى على سخريته الناصعة وموسيقاه التي لامست الوجدان بأقرب مما فعلت مئات الخطب السياسية.
كان زياد الجسر الذي يربط بين صوت أمّ الحنين فيروز، وبين عالم تغيّر كثيرًا بعد رحيل عاصي ومنصور الرحباني. ومع غيابه، أصبحت الموسيقى الجسر الوحيد الذي لا يزال يصل بين الضفتين: بين الحياة وما بعدها، بين الصوت والذكرى، بين فيروز وزياد.
فيروز وزياد: جسر لا يُهدم
لم تكن فيروز بالنسبة لزياد مجرد أم، بل كانت رمزًا وصوتًا ووطنًا بأكمله. كتب لها ما يشبه الحقيقة التي يعيشها اللبنانيون والعرب: أغانٍ ساخرة، موجعة، صادقة، مشاغبة. منذ مسرحياته السياسية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وحتى ألحانه التي مزجت الشرق بالغرب، كان زياد يعرف كيف يُبقي صوت فيروز حيًّا في أذن الجمهور الحديث.
يروي أحد المقرّبين منه:
“أمّي ما بتغني إلا إذا شعرت إنّو الكلام صادق… وأنا كنت أعرف كيف أكتب إلها الصدق.”
برحيل زياد، فقدت فيروز ليس فقط ابنًا، بل الجسر الأخير الذي كان يربطها بعصرٍ كامل من المسرح والغناء والجرأة.
“ع موقف دارينا”… حين يتحوّل الانتظار إلى قدر
“ع موقف دارينا… نطرونا كتير”، الجملة التي غنّتها فيروز منذ عقود، عادت اليوم لتصبح مرثية. الأغنية التي كانت عن الحبيب المنتظر، تحوّلت إلى صلاة أمّ تودّع ابنها. لم يعُد اللقاء ممكنًا، لكن بقي الجسر، ذاك الذي لا يُهدم: اللحن.
من الناحية الموسيقية، الأغنية مبنية على مقام بسيط، فيه شجن ناعم لا يحتاج إلى تصعيد درامي. الانسياب السلس، كالمطر، هو ما يمنحها عمقها. الانتظار في هذا السياق ليس له صوتٌ مرتفع، بل نبضٌ داخلي لا يهدأ.
تقول إحدى المستمعات من جيل الحرب اللبنانية:
“هذه الأغنية كانت ترافقنا في الباصات وعلى الطرقات المهدّمة… واليوم ترافقنا ونحن نبكي زياد. فيروز جعلتنا نفهم أن الحزن لا يرحل، بل يتحوّل إلى لحنٍ نعيشه كل يوم.”
الجسر في البوسنة… استعارة من وجدان بيروت
ما علاقة زياد الرحباني بجسر موستار في البوسنة؟ قد تبدو الإجابة بعيدة، لكن في العمق، هناك رابط رمزي قوي. موستار، الجسر العثماني الشهير، انهار تحت القصف في حرب التسعينات، فانهار معه جزءٌ من الروح البوسنية. لكنه عاد، حجرة حجرة، ليكون شاهدًا على إمكانية الترميم رغم الخراب.
فيروز، اليوم، تشبه ذلك الجسر. فقدان زياد كان انهيارًا داخليًا، لكن صوتها ما زال قائمًا، يُرمم الحنين، ويعبر بنا من الحزن إلى الذكرى، من الغياب إلى الإيمان بأن اللحن أقوى من الفقد.
فيروز… أمّ الحنين وصوت الأوطان
فيروز ليست مغنية. هي ذاكرة، صلاة، طيفٌ يُطرب الأوطان ويُربت على قلوب من فقدوا. فقدت زوجها عاصي في ذروة الإبداع، ثم منصور، والآن زياد، رفيقها في الثورة على الشكل والنمط، والابن الذي أخرجها من صورة أيقونية إلى صوتٍ أكثر حيوية وتمرّدًا.
لكنها، كجسر موستار، لا تُعلن انكسارها. تقف بصوتها مثل الحجر الصلب: صامتة أحيانًا، لكنها موجودة، عميقة، وتقاوم بصمتها. غناؤها يشبه صلاة الصباح… يمنح الحياة قدرةً على الاستمرار، ويمنح الغياب معنى.
الموسيقى… الجسر الأخير الذي لا يُقصف
زياد الرحباني، المتمرّد الصادق، ترك وراءه إرثًا من ألحان ومسرحيات وكلمات ستبقى. كل لحنٍ لفيروز هو الآن جسرٌ جديد نحو ذاكرته. كل سخرية نطق بها، صارت مرآة لزمن لا يزال يعيد طرح الأسئلة.
الموسيقى لا تموت. لا تُقصف. في البوسنة، بكى الناس حين عاد الجسر؛ في بيروت، يبكون كلما سمعوا “عودك رنان” أو “كيفك إنت؟”. لأن هذه الأغاني هي جسور، لا تعبر فقط الزمان، بل تعبر قلوبنا.
من بيروت إلى موستار… عبور الحزن ذاته
ربما لو وقفت فيروز على جسر موستار، لشعرت أن حجارته تُشبه قلبها: انهار ذات يوم، لكنه صمد. وربما لو مشت في أزقة سراييفو، لتذكّرت بيروت القديمة التي غنّت لها. فالحزن، كالحب، لا يعرف حدودًا.
فيروز هي الجسر، الممتدّ من صوتها إلى أرواحنا. ومع زياد، صار الجسر مزدوجًا: صوتها من الضفة، وذكراه من الضفة الأخرى.
كلمة أخيرة…
رحيل زياد الرحباني ليس مجرد خبر. إنه فقدان جزء من الوعي العربي، من الضحكة الصادقة، من النغمة التي تُشبهنا. لكن كما علمتنا فيروز دائمًا، الأغنية لا تموت. إنها الجسر الأخير الذي يجعل الحياة ممكنة.
“لا تخف من العبور… كل نهر يعرف طريقه إلى البحر”، هكذا قال شمس التبريزي.
وفيروز تعرف الطريق جيدًا.
أما زياد، فهو الآن هناك… على الضفة الأخرى، يبتسم بينما نحن نردّد:
“ع موقف دارينا…”