غزة… شقيقة إسطنبول: حين تتصافح المدينتان على ضفاف الوجع والأمل

بقلم: سيلينا السعيد
في لحظة بدت وكأنها نُسجت من قلب واحد، أعلنت بلدية إسطنبول الكبرى أن مدينة غزة أصبحت رسميًا مدينة شقيقة لإسطنبول.
خبرٌ صغير في صياغته، عظيم في رمزيته، يحمل في طياته أكثر من معنى ورسالة. فحين تفتح إسطنبول ذراعيها لغزة، لا تكون المسألة مجرد قرار إداري، بل لغة إنسانية جديدة تُكتب بحروف التضامن والإخاء، في زمن تتقاطع فيه الجغرافيا والسياسة والوجدان.
إسطنبول، مدينة الحضارات والأديان، تمد يدها إلى غزة، المدينة المحاصرة التي لم تتوقف يومًا عن الصمود. بين ضفاف البوسفور وأزقة الشجاعية، يبدو كأن هناك خيطًا من نور يربط التاريخ بالدمع، والبحر بالحلم، والوجدان بالحرية.
قرار يتجاوز السياسة
لم يكن الإعلان مجرد خطوة رمزية، بل جاء بعد إجماع جميع الأطياف السياسية في مجلس بلدية إسطنبول — خطوة نادرة في المشهد التركي — مؤكّدًا أن القضية الفلسطينية ليست مسألة حزب، بل ضمير أمة.
فحين تتفق الأصوات المختلفة على أمر واحد، فهذا يعني أن هناك وجعًا واحدًا يوحّدها، وأن غزة ليست مجرد مدينة في الأخبار، بل حكاية في القلب التركي منذ قرون، منذ كانت السفن العثمانية ترسو في موانئها محمّلة بالقمح والرجاء.
بهذا القرار، تُعلن إسطنبول أن الروح لا تعرف الحدود، وأن الأخوّة لا تُقاس بالبُعد الجغرافي، بل بالوجدان المشترك.
معنى أن تكون غزة شقيقة لإسطنبول
أن تكون غزة شقيقة لإسطنبول، يعني أن الجرح صار له وجهان، وأن المعاناة صارت جسرًا للتواصل، لا للحزن فقط.
يعني أن أصوات الأذان التي تتصاعد من المساجد القديمة هنا وهناك، هي نغمة واحدة رغم اختلاف اللهجات.
يعني أن الأطفال الذين يركضون في أحياء السلطان أحمد أو في دير البلح، يشتركون في حلم واحد بالكرامة والحرية.
هذا الإعلان ليس مجرد لافتة تُعلّق على جدار، بل هو التزام أخلاقي وثقافي ومسؤولية إنسانية.
بلدية إسطنبول ستعمل، وفق ما أعلن مسؤولوها، على تعزيز التعاون في مجالات الإغاثة والثقافة والتعليم والبنية التحتية، وتطوير مشاريع مشتركة تُعيد الأمل لأهالي غزة.
رسالة من إسطنبول إلى غزة
من ضفاف البوسفور، تُرسل إسطنبول رسالة حبٍّ إلى غزة تقول فيها:
“لسنا نملك أن نكسر الحصار، لكننا نكسر الصمت.
لسنا نملك أن نوقف الحرب، لكننا نُشعل شمعة في العتمة.
نحن معكم، بكل ما نحمل من محبة وإيمان بالإنسان.”
إنها ليست رسالة من بلدية إلى أخرى فحسب، بل عناق بين مدينتين: الأولى تتنفس من قلب التاريخ، والثانية تحيا رغم أنف الحصار. الأولى مفعمة بالحياة والثقافة، والثانية تزرع الأمل في الرماد.
دلالات إنسانية وسياسية
الخطوة تحمل دلالات سياسية وإنسانية في آن واحد. ففي وقت تتسارع فيه الأحداث وتتصاعد التوترات الإقليمية، تأتي هذه المبادرة لتقول إن الشعب التركي ما زال يرى فلسطين جزءًا من ضميره.
كما أنها تُعيد التذكير بدور المدن الكبرى، لا كمساحات جغرافية فقط، بل كقوى ناعمة قادرة على بناء الجسور حين تُغلق الأبواب السياسية.
من الناحية العملية، تعني هذه “الأخوة البلدية” فتح قنوات تعاون رسمي في مجالات التنمية المحلية، التعليم، الدعم الطبي، والمساعدات الإنسانية، إلى جانب تعزيز التواصل الثقافي بين المؤسسات والمواطنين في المدينتين.
وأبعد من ذلك، فهي رسالة رمزية إلى العالم: أن غزة ليست وحدها، وأن إسطنبول — بكل تاريخها وعمارتها ومساجدها وكنائسها — تحتضنها في القلب، لا في السياسة فقط.
غزة في الذاكرة التركية
لطالما كانت غزة حاضرة في الذاكرة التركية، منذ أيام الدولة العثمانية، مرورًا بسنوات الجمهورية، وصولًا إلى اليوم.
في الوجدان الشعبي التركي، اسم “غزة” لا يعني مجرد مكان، بل رمز للصبر والشهادة.
ولهذا، حين قال رئيس بلدية إسطنبول: “غزة مدينة شقيقة لإسطنبول”، كان كأنه يُعيد وصل ما انقطع بين التاريخ والحاضر.
إنه إعلان تضامن بين مدينة تحيا في ظل الجبال، وأخرى تصارع تحت السماء المفتوحة؛ بين مدينة تُضيء ليلها بالمآذن، وأخرى تُضيء ليلها بالشموع وسط العتمة.
التداعيات والتحديات
سياسيًا، من المتوقع أن يُثير القرار تفاعلاً واسعًا في العالمين العربي والإسلامي، خاصة في ظل استمرار الحصار على غزة وتوتر الأوضاع الإقليمية.
قد يراه البعض “رسالة سياسية” موجهة إلى المجتمع الدولي، بينما يراه آخرون موقفًا وجدانيًا صادقًا من الشعب التركي تجاه المأساة الفلسطينية.
أما على المستوى العملي، فالتحدي يكمن في تحويل هذه الرمزية إلى مشاريع واقعية تُحدث فرقًا في حياة الغزيّين.
بلدية إسطنبول أكدت استعدادها لدعم جهود الإعمار، وتبادل الخبرات البلدية، والمساهمة في المبادرات الإنسانية بالتعاون مع المؤسسات الإغاثية التركية.
المدينتان… والقلب الواحد
ربما لا تشبه إسطنبول غزة في معالمها، لكنها تشبهها في نبضها.
كلاهما مدينتان تعلّمتا كيف تنهضان من الركام، وكيف تبتسمان رغم الحروب والخيبات.
كلاهما تحملان رائحة البحر، وصوت الأذان، وملامح التاريخ المشترك بين العرب والأتراك.
حين تتصافح المدينتان، تتلاقى الذاكرة العثمانية مع الوجدان الفلسطيني، ويتحوّل التضامن من خطاب سياسي إلى حكاية إنسانية.
خاتمة: شراكة في الضوء
ليس من السهل أن تكون غزة شقيقة لإسطنبول، لأن ذلك يعني أن إسطنبول تحمل جزءًا من ألمها ومسؤوليتها.
لكنها أيضًا شراكة في الضوء، في الأمل، وفي الإيمان بأن الحرية لا تُمنح، بل تُزرع كما تُزرع الزيتونة في أرض عطشى.
من مدينة تعانق القارات الثلاث، تُطلّ إسطنبول على غزة وتقول:
“يا أختنا البعيدة، لسنا نملك البحر الذي يُطوّقك، لكننا نملك القلب الذي يحتضنك.”
في زمن يموج بالأزمات، تأتي هذه المبادرة لتذكّرنا أن المدن لا تُبنى بالحجارة وحدها، بل بالمحبة أيضًا.
وأن الأخوّة، حين تُكتب بين الشعوب، تصمد أطول من كل الاتفاقيات.