غزة.. سياسة الأرض المحروقة ومأساة التهجير المنظم

بقلم : نداء حرب
في قلب الشرق الأوسط وعلى أرضٍ تاريخيةٍ شهدت حضاراتٍ متعاقبة، تُكتب اليوم واحدة من أقسى فصول المعاناة الإنسانية في العصر الحديث. ليست غزة حلقةً معزولةً في سلسلة الصراع فحسب، بل حالة استثنائية من التدمير المنهجي والاستهداف المتعمد لكل مقومات الحياة — في ما يمكن وصفه بحملةٍ تهدف إلى محو الهوية وإخماد الأمل.
السياسة التي تُمارسها حكومة بنيامين نتنياهو في غزة ترتقي إلى ذروة التطرف والعنف الدولة المنظّم. إنها سياسة «الأرض المحروقة» بكل ما تحمله العبارة من معنى: هدم للمنازل، تشريد للعائلات، تعطيل للمستشفيات والمدارس، واستهداف صارخ حتى للأشجار المثمرة—رمز الصمود والارتباط بالأرض. هذا العدوان المتصاعد لا يستثني إنسانًا ولا حجرًا، وهو يستهدف البنية الحياتية والاقتصادية للمدن والقرى بهدف خلق وقائع جديدة على الأرض وإعادة خلط الأوراق الدولية تحت ذريعة «الدفاع عن النفس».
في إطار حربٍ شاملة على الشعب الفلسطيني، لم تقتصر الأعمال على الهدم فحسب، بل امتدت إلى تدمير مصدر الرزق والرمز: اجتثاث أشجار الزيتون وتكسير الأغراس. بلغ الأمر حدَّ إطلاق النار الحي من قبل القوات على مزارعين يتجهون لقطف ثمار الزيتون، واعتداء مستوطنين مسلحين على قاطفي الزيتون وتخريب ممتلكاتهم. هذه الأعمال ليست حوادث معزولة، بل عناصر لنهج ممنهج يقضي على الاقتصاد الفلسطيني الهش، ويقطع الصلة بين الإنسان والأرض، ويمارس ضغطًا متواصلاً لإجبار أهلها على الرحيل.
المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية تقف شاهدًا على الجوهر الاستعماري للمشروع. أقيمت فوق أراضٍ مصادرةٍ وموّلت الاستيلاء على الموارد الطبيعية — وخاصة المياه — وحوّلت الفلسطينيين إلى رهائن نظام توزيعٍ مجحف. كما عملت هذه المستوطنات على تقطيع النسيج الجغرافي الفلسطيني، بفصل القرى عن المدن وتحويل التجمعات السكانية إلى كانتونات معزولة تُسهّل السيطرة عليها؛ فتعطلت حركة التجارة والصناعة، وشُلّت فرص التنمية، وبقي السكان تحت رحمة احتلالٍ لا يوفر بنية تحتية أو آفاقًا اقتصادية.
أما الحديث عن «وقف إطلاق النار» فهو بين وهمٍ وواقع. التجارب المتكررة أظهرت أن أي هدنة تفتقر إلى آليات رقابة دولية حازمة وعقوبات على الانتهاكات تُحكم عليها بالفشل. استمرار حالة الاحتلال ورفض الامتثال للقانون الدولي والاتفاقيات يبيّنان أن الهدنات المؤقتة قد تتحول إلى فترات لإعادة ترتيب القوات واستئناف العدوان لاحقًا. هذا النهج لا يهدد الفلسطينيين فحسب، بل يمثل خطرًا على الأمن والاستقرار الإقليمي، إذ يغذي دوامة من العنف والكراهية لا تثمر سوى مزيدٍ من التطرف والدمار.
الخلاصة أن ما يُجري في غزة والضفة الغربية ليس صراعًا بين طرفين متكافئين، بل مواجهةٌ بين قوة احتلالٍ متفوقةٍ عسكريًا وتستفيد من صمتٍ أو تواطؤٍ دولي، وشعبٍ أعزلٍ متمسكٍ بحقِّه في الوجود على أرض أجداده. سياسة الأرض المحروقة، واستهداف الزراعة، وتوسيع المستوطنات، والإخفاق في تحقيق وقف إطلاق نارٍ حقيقي — كلها حلقاتٌ في مسلسلٍ واحد يهدف إلى تهجير الفلسطينيين وطمس هويتهم. إن استمرار الصمت الدولي والتواطؤ غير المباشر مع جرائم الاحتلال ليست خيانةً للفلسطينيين فحسب، بل خيانةٌ لقيم الإنسانية والأخلاق وللمستقبل الذي يغوص في ظلامٍ متزايد.
