GreatOffer
آراء

عندما يغني الزمن : برج الساعة في سراييفو وأغنية السيفدالينكا القمرية

بقلم : سيلينا السعيد

Advertisement GreatOffer

في قلب سراييفو ، حيث تتمازج منارة المسجد و أجراس الكنيسة ، وتهمس الجبال بأسرار النهر ، يقف برج الساعة كعاشقٍ قديم ينتظر غروب الشمس ليضبط دقاته على نغمة الزمن القمري. هناك ، حيث تمشي الأزمنة على إيقاع الروح ، يروي هذا البرج حكاية مدينةٍ تعرف كيف تصغي إلى صمت الليل وأغنية الغياب.

ليست ساعة سراييفو مجرد عقارب تدور ، بل هي سيفدالينكا صامتة ، أغنية حنين تُغنّى دون لحن ، تهمس بأشواق الزمن إلى القمر ، حيث لكل لحظة معنى ، ولكل غروب حكاية. إنها الساعة الوحيدة في العالم التي لا تزال تسير على التوقيت القمري الإسلامي ، حيث يبدأ اليوم مع غروب الشمس ، وكأن الزمن هنا ينسج قصته كما تنسج السيفدالينكا خيوطها من الشجن والعشق.

Advertisement

 

 

 

وفي هذا المقام ، كيف لا نستدعي روح السيفدالينكا ، ذلك الغناء الذي خرج من عمق وجدان البوسنة ، يروي حكايات الفقد والانتظار ، الحب والحنين؟ وكيف لا تلتقي دقات الساعة مع هذا التراث ، الذي يشبه تنهيدة شجرةٍ عجوز تنتظر قُبلة الغيم؟

“رأيتُ في حلمي راعية ، تبكي في بستان البرقوق ،

تنتظر القمر ليضيء دربها ، وتغني للنجوم بدموعها”.

هكذا كانت السيفدالينكا ، وهكذا هي ساعة سراييفو؛ كلاهما ينتظران الغروب ، كلاهما يتغنيان بالفقد والشوق ، وكلاهما يحفظان في صمتهما حكايات منسية.

بُني برج الساعة في القرن السابع عشر ، إبّان الحكم العثماني ، حين كان الزمن يُقاس بإيقاع الطبيعة ، حين كانت الأرواح تضبط دقاتها على وقع الغروب. ومنذ ذلك الحين ، ظل البرج شامخًا ، يضبط الزمن ليس على عقارب الساعة الحديثة ، بل على لمسة الغروب ، على وداع الشمس ، تمامًا كما تُغنّى السيفدالينكا وداع الحبيب وفقدان الوطن.

لكن هذه الساعة القمرية تحتاج إلى من يصغي لأسرار الغروب ، وهنا يظهر “المُوقّت” ، الرجل الذي ورث مهمة ضبطها كمن يرث طقسًا مقدسًا ، يصعد كل يوم إلى البرج ، يراقب الشمس وهي تودّع الأفق ، ويضبط عقارب الزمن على موعد رحيلها. تمامًا كما كان أسلافه يضبطون أوتار قلوبهم على نغمة السيفدالينكا ، يغنون للحظات الفقد ويتركون لكل دمعة أن تجد صدى في أغانيهم.

وفي زمنٍ ركضت فيه الحياة خلف السرعة ، تبقى ساعة سراييفو أشبه بأغنية سيفدالينكا خافتة ، تُذكّر بأن للزمن طعمًا لا يعرفه إلا من أصغى لصوت الحنين ، وتأمل في لحظات الغروب كأنه يصغي لصدى العشق في قلبه.

إن برج الساعة ، بكل ما يحمله من تاريخ وصمت ، هو سيفدالينكا من حجر ، ترتل قصيدة الشوق إلى الضوء ، وتغني للعتمة التي تمضي. إنه صوت المدينة الذي لا يموت ، وإن غابت الشمس ، وإن أطفأ القمر نوره.

ليس غريبًا أن يبقى هذا البرج مزارًا ومهوى لأفئدة العاشقين ، ففي كل دقة من دقاته ، تتردد أنغام السيفدالينكا ، وتُستعاد حكايات الحب والرحيل. ومن يزور سراييفو ولا يصغي إلى دقات برجها ، كأنه غفل عن سماع سيفدالينكا لم تُغنَّ بعد.

في سراييفو ، حيث يختلط التاريخ بالحياة ، تبقى الساعة القمرية والسيفدالينكا شاهديْن على أن الزمن ليس مجرد أرقام تتوالى ، بل قصة تُغنى وتُبكى ، حكاية عشق تُولد مع الغروب ولا تنتهي. وكأن الزمن في سراييفو يقول لنا :

“خذوا من الغروب لحظتكم ، وأدركوا أن الزمن ، مثل السيفدالينكا ، أغنية تنتظر من يوقظها”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى