ظلّ الأشياء الغائبة

بقلم: د. خالد السلامي
لا يجيء الغياب صامتًا كما نتصوّر. له لغة خفية لا تُكتب ولا تُسمع، لكنه يترك خلفه أثرًا يشبه الظلال الممدودة في آخر النهار. كل ما يغيب يخلّف نسخة غير مرئية من نفسه، أخفّ وزنًا، لكن أثقل وقعًا على الروح. هذا الأثر يرافقنا في الطرقات، يطلّ علينا من فراغات لم نعد نملؤها، ويجلس معنا في الغرف التي فقدت أصواتها.
الغياب ليس اختفاءً كاملاً، بل حضورٌ من نوع آخر—بلا جسد. أحيانًا يكون أقوى من الحضور نفسه. عندما يغيب شخص أو لحظة أو شيء، يتضاعف وجوده في الداخل؛ يتحول إلى فكرة تتجوّل في القلب بلا استئذان، إلى صدى يتردّد في الذاكرة عند أقلّ إشارة، إلى إحساس يلاحقنا بين النوم واليقظة. في كل غياب اختبار لقدرتنا على الإصغاء لما وراء الصمت، ولِما لا تقوله الحياة صراحةً.
لكل ما نفتقده ظلّ لا يراه الآخرون، لكنه يتبعنا وحدنا. يظهر حين نمرّ بمكان مألوف، أو نسمع لحنًا قديمًا، أو نشمّ رائحة من زمنٍ مضى. يتجوّل معنا، يشاركنا لحظات السكون، ويذكّرنا بما مضى. يترك شقوقًا صغيرة في رتابة اليوم، يتسرّب منها الضوء أحيانًا، والحنين أحيانًا أخرى.
ومع الوقت، نتعلّم كيف نتعايش مع هذا الظل. لا نطرده، لأنه جزء من ذاكرتنا. ولا نسمح له بابتلاعنا، بل نتركه يرافقنا بصمت. الغياب معلم صامت، يعلّمنا أن لا شيء يُمتلك إلى الأبد، وأن ما نراه ثابتًا قد يتحوّل إلى ذكرى في لحظة خاطفة. كل غياب درس غير معلن بأن الحياة مؤقتة، وأن كل اكتمال قابل للانكسار.
ظلّ الغياب مزدوج الطبيعة؛ ثقيل على القلب، خفيف على العين. لا يُمسك، لكنه يرافقنا. يظهر فجأة على كرسي فارغ، في صدى صوت، أو بين نظرتين. يذكّرنا بما نفتقده دون أن ينطق، ويمتحن صبرنا على الحياة كما هي.
وفي لحظات السكون، يتحول إلى محفّز للتأمل. يعيد ترتيب أولوياتنا، ويمنحنا وعيًا بالتفاصيل الصغيرة التي غابت عن أنظارنا في زحمة الحضور. نكتشف أن ما نفتقده قد يكون جزءًا من حقيقتنا أكثر مما نملكه. الغياب يعيدنا إلى الداخل، إلى مساحة يمكننا فيها سماع أنفسنا.
حين يهبط الليل وتهدأ الضوضاء، يصبح ظلّ الغياب أكثر وضوحًا. الأشياء الغائبة تتحوّل إلى حضور داخلي مكثّف. تجلس معنا على بعد خطوة من الإدراك، وتكشف هشاشتنا. نحن مخلوقات مشدودة بخيوط غير مرئية إلى ما لا نراه.
والمفارقة أن هذا الظل لا يختفي. قد يغيب حين ننشغل، لكنه يعود في لحظات الانكسار، أو في حلمٍ عابر، أو في شعور غامض لا نعرف له سببًا. ومع مرور الوقت، يتغير موقفنا منه. من المقاومة إلى القبول، من النسيان إلى التعايش. نفهم أن الغياب جزء من تجربتنا، مثل الحضور تمامًا. نمنحه مكانًا صغيرًا في القلب، دون أن نسمح له بالهيمنة.
هذا القبول ليس استسلامًا، بل وعي ناضج: أن بعض النقص سيبقى دائمًا، وأن الامتلاء الكامل وهم جميل. الفلاسفة تحدثوا عن الغياب كجزء من وعي الإنسان، وعن الحنين كوجه شعوري له، قادر على إلهام الفن والمعرفة. كل فقد درس، وكل غياب امتحانٌ للهشاشة والرحمة فينا.
في النهاية، يبقى السؤال معلقًا: هل نحن من يلاحق ظلّ الغائب، أم أنه هو من يلاحقنا في أعماقنا؟ لا إجابة قاطعة. وربما لا نحتاج إليها. يكفي أن نسمح لهذا الظل بأن يمرّ بهدوء فينا.
نراه أحيانًا، ويرانا دائمًا. ونتصالح معه حين ندرك أن الحياة مزيج من الحضور والغياب، من الامتلاء والنقص، من ما نملكه وما فقدناه. وكلما تعلّمنا التعايش مع ظلّ الأشياء الغائبة، صرنا أكثر امتنانًا لما بين أيدينا، وأكثر استعدادًا لتقبّل ما قد يغيب. وتلك، في جوهرها، حكمة تستغرق عمرًا كاملًا لفهمها.