ضوء : “الحروب الدينية”
بقلم : د. أنيسة فخرو
كل الحروب ترتدي رداء الدين بهدف سياسي واقتصادي وكل تلك الحروب التي اشتعلت في العالم لم تحل المشكلة ، بل زادتها تعقيداً ، وكلها يُستخدم فيها الدين من أجل مصالح سياسية لفئة على حساب الأغلبية ، وخير مثال حروب أوروبا.
وقد عاشت أوربا أحلك فترات حياتها ظلمة أثناء الحروب الدينية ، ففي العام 1577 أرسل (فيليب) ملك أسبانيا الكاثوليكي جيشاً إلى هولندا لإخماد الحركة البروتستانتية ، وكانت محاكم التفتيش تطارد المغاربة في أسبانيا ، وجيوشه تحرق المدن في هولندا ، وعندما انهزم (فيليب) في هولندا ، جهز أسطولاً باسم الدين لمقاتلة الإنجليز عام 1588، وفتك بجيشها وأحرق واغتصب ونهب وارتكب المجازر بحق الشعب الإنجليزي.
وفي فرنسا تم ذبح 25000 بروتستانتي في عيد (سان بارتلوميه) ، وبأوامر من الكنيسة الكاثوليكية والحكومة الفرنسية حصدوا آلاف الأرواح بجرة قلم.
وفي عام 1618 بدأت حرب الثلاثين عاما، وانتهت بالخراب الكلي في ألمانيا عام 1648؛ فلقد حاول الإمبراطور (فرديناند الثالث) أن يمحو البروتستانتية في ألمانيا؛ فأرسل جيوشه لتدمر وتقتل 14 مليون نسمة.
وظهرت الأهداف الحقيقية للحروب، وتحولت التحالفات بحسب المصالح، فجاء (جوستافوس) الأسوجي البروتستانتي لدحر الإمبراطور (فرديناند) الكاثوليكي، وانضمت فرنسا الكاثوليكية إلى البروتستانت لقتال الإمبراطور، ثم دخلت الدنمارك البروتستانتية لقتال الأسوجيين البروتستانت.
وهكذا عم الخراب أوروبا كلها من شمالها إلى جنوبها، وتمثلت ذروة الحروب الدينية في عهد الملك (لويس الرابع عشر) من سنة 1562 وحتى 1598، واستمرت الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت قرنين من الزمان.
وفي عام 1604 ظهر مفكر في إيطاليا يدعى (فوستوس سوزيني) لينشر مبدأ التسامح قائلاً : “كل إنسان حر للحكم على دينه؛ لأن هذه هي القاعدة التي يبسطها لنا العهد الجديد ، وهي ما تقوله لنا تعاليم الكنيسة الأولى ، فمن نحن حتى نخنق ونطفئ نار الروح المقدسة في الآخرين ، إننا جميعا إخوة ليس لأحد منا أن يسيطر على نفوس الآخرين، وليس أحد منا أعلم من الآخرين”.
وحاولت الكنيسة أن تقف في وجهه وتحارب أفكاره ، لكن الفكرة كالريح لا أحد يستطيع إمساكها؛ فاشتعلت الشرارة من إيطاليا لتنير أوربا كلها ، وتنشر مبدأ التسامح بعد الخراب الكلي الذي نال كل جزء في أوربا ، ومنذ تلك اللحظة تعلموا الدرس جيداً، وعرفت الشعوب في أوربا قيمة التسامح وتقبل الآخر؛ لأن الثمن الباهظ الذي دفعه الناس والضريبة الجهنمية للحروب التي أكلت الأخضر واليابس جعلت قيم التسامح تترسخ شيئا فشيئا.
على الرغم من الصراع الذي استمر علنا أو خفاء بين الكنيسة والمجتمع حتى القرن 19، حينما تمت محاكمة شاب في التاسعة عشرة من عمره اسمه (جان فرانسو لابار)؛ لأنه قام بكسر الصليب، فحاكمته الكنيسة في فرنسا، وقطعوا يديه، ثم اقتلعوا لسانه، ثم أحرقوه حيا؛ فتصدى المفكر والفيلسوف (فولتير) ليدافع عن قضيته ويكسبها، ليُحكم على الكنيسة بالبطلان وعدم أحقيتها في ذلك، وليتوقف تدخل الكنيسة منذ تلك اللحظة في مصائر البشر، وليصبح (فولتير) بذلك رائد الحرية، ويخلد التاريخ اسمه على صفحات من ذهب.
وماذا تعلمت أوربا من تلك المحن؟ تعلمت أثمن ما يمكن ، تعلمت أن قيمة الإنسان وعقله لا يقدران بثمن ، تعلمت احترام الرأي والرأي الآخر، ومقارعة الفكرة بفكرة أخرى ، والحجة بالحجة ، لا بالحديد والنار، ولا بالدم ولا القتل، وبفضل تلك القيم نهضت أوروبا كطائر الفينيق من الرماد لتبني وتعمر ، ولتمتد النهضة الفكرية والثقافية لتشمل الاقتصاد والسياسة وكل مجالات الحياة الأخرى.
فهل نتعلم نحن من تلك التجربة المريرة؟ أم أنَّه لزام علينا أن نعيش الخراب والعذاب والمرارة الذي مرت بها أوروبا لكي نتعلم الدرس؟ ونحن للأسف الآن نعيش أعتى أنواع الخراب على الأمة العربية والإسلامية، ونمر بمرحلة تاريخية هي الأشد ظلمة وقبحا، فهل لا بد أن نعيش الخراب الأكثر والأفظع؟ وهل لا بد أن تنمحي أوطاننا وتُباد شعوبنا وحضارتنا عن بكرة أبيها لكي نفهم الدرس؟ وهل سيأتي يوم على الأمة العربية تعرف فيه قيمة التسامح الفكري والثقافي لكي تنهض حضارياً من جديد؟ الجواب على هذه الأسئلة بأيدينا نحن لا غير، فمن يجيب ويستجيب؟