آراء

صمت عميق أم كلمة صادقة؟ أيهما أبلغ في التعبير؟

بقلم: د. خالد السلامي

Advertisement

يُقال إن للكلمة نورًا يكشف خبايا القلوب، وللصمت لغةً خفيةً تفصح عمّا تعجز الكلمات عن حمله. في المسافة المتوترة بين سكون الصمت وصخب الكلمة، يتأرجح الفكر والوجدان باحثَين عن الحقيقة والمعنى، في رحلة تتخللها حكمة الحكماء وأبيات الشعراء وهمسات الروح. فأين تنتهي حدود الصمت، وأين تبدأ سلطة الكلمة؟

بلاغة الصمت وفلسفته

Advertisement

للصمت بلاغة لا يدركها إلا من عاش لحظات السكون العميق. فهو كلامٌ بين السطور الخفية، وهيبةٌ تكسو صاحبه، حتى شبّه العرب الصمت بالذهب والكلام بالفضة. وقد عبّر الإمام علي بن أبي طالب عن ذلك شعرًا:

إن كان منطِقُ ناطقٍ من فضةٍ

فالصمتُ دُرٌّ زانَه الياقوتُ

في موضعه، قد يكون الصمت أبلغ من أي حديث، وهو حارس للكلمات قبل أن تنطلق، وملاذ للمشاعر حين تضيق العبارة. نرى لغته في عين أمٍّ تحدّق بصمت في طفلها النائم، أو بين صديقين يتبادلان فهمًا بلا كلام. وقد يصبح الصمت وسيلة للتعبير عن الحزن أو الحب أو الامتنان، حين تبدو الكلمة أضعف من الإحساس.

سحر الكلمة ومسؤوليتها

على الجانب الآخر، للكلمة سلطانٌ لا يقل أثرًا عن الصمت. بالكلمات نبني الجسور ونواسي القلوب، وننشر الحق والمعرفة. الكلمة الصادقة تشعل الأمل وتحرّك العزائم، وقد تغيّر مصائر الأفراد والأمم.

لكن هذه القوة سلاح ذو حدين؛ فالكلمة الجارحة قد تهدم في لحظة ما بناه القلب في سنوات. يقول الشعر:

وجُرحُ السيفِ تُدملهُ فيبرأُ

ولا يلتامُ ما جرحَ اللسانُ

لذلك، تستوجب الكلمة وعيًا وحكمة في استخدامها، لأن ما يُقال لا يعود، وما يخرج من اللسان قد يرفع صاحبه أو يهوى به.

توازن الحكمة

ليست الفضيلة في الصمت دائمًا، ولا الكلمة في كل مقام مذمومة. الحكمة هي معرفة متى نصمت ومتى نتكلم. وقد لخّص النبي ﷺ هذا التوازن بقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».

الصمت قد يكون ردًا بليغًا، والكلمة قد تكون سيف عدل أو بلسمًا للروح. لكن الصمت أحيانًا يُفسَّر رضًا وهو في حقيقته قهر، والكلمة قد تُظن هجومًا وهي في جوهرها استغاثة. وبينهما يتأرجح الإنسان، لا يرشده سوى البصيرة.

خاتمة

قد يكون الصمت في حضرة الجمال خشوعًا، وفي حضرة الألم دموعًا، وقد تكون الكلمة في وجه الظلم سيفًا، وفي لحظة الحيرة نورًا. لكل مقام مقال، ولكل صمت معنى. وبين همس السكون وصخب العبارة، تتشكل إنسانيتنا وتُختبر حكمتنا. ويبقى السؤال مفتوحًا: أيهما أبلغ في التعبير، صمت عميق أم كلمة صادقة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى