صراعٌ يُنقذ الحياة: حين تحدّث مصطفى محمود عن سرّ التوازن في الكون

بقلم: محمد بن العبد مسن
قال الله تعالى:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}
في أعماق هذه الآية، غاص الدكتور مصطفى محمود كما يغوص الحكيم في لجج الحكمة، ليستخرج منها إحدى أعظم درر التفسير الوجودي. لم يرَ فيها مجرد كلماتٍ تُتلى، بل بوابة لفهم سنن الحياة، ومفتاحًا لفك شيفرة التوازن العجيب الذي يحكم حركة الكون.
رأى مصطفى محمود، بعين الفيلسوف الذي جمع بين نور العلم وهُدى الإيمان، أن هذه الآية لا تقتصر على توصيف الصراعات البشرية، بل تمثّل قانونًا إلهيًا يُسيّر نبض الوجود كلّه. إن “الدفع” الوارد في الآية ليس فعل عنفٍ محض، بل فعل رحمةٍ يُعيد الاتزان للكفّة، ويكبح جموح الظلم، ويقي الأرض من الفساد والانهيار.
يقول مصطفى محمود:
“لو تُرك الشر ليتمادى بلا من يردّه… لو تُرك الباطل ليعلو بلا من يقاومه… لفسدت الأرض، واختنقت فيها الأرواح كما تختنق الزهور في مستنقع آسن.”
بهذا التأمل العميق، يقدّم لنا تفسيرًا لا للصراع الدموي فحسب، بل للصراع الفكري والروحي والاجتماعي بوصفه أداةً من أدوات حفظ التوازن. فالصراع، حين يكون تحت مظلة العدالة، لا يُفسد الحياة بل يحميها من السكون القاتل.
في كل لحظة من لحظات الوجود، هناك “دَفْع”:
في الفكر، ينبعث العقلاء لمجابهة الجهل والخرافة.
في السياسة، يواجه الأحرار جبروت الاستبداد.
في الاقتصاد، تُلجِم المنافسة جماح الجشع.
حتى في النفس، يتصارع الضمير مع الشهوة، ويتجاذب الإنسان نداء الطين ونداء النور.
ولولا هذا الصراع المحكوم بميزانٍ دقيق، لانقلبت الحياة إلى ركودٍ مميت، وساد لونٌ واحد، وصوتٌ واحد، ورأيٌ واحد… وذلك هو الموت الحقيقي، وإن سُمّي “استقرارًا”.
إنها آية تكشف كيف يُقيم الله ميزان الحياة لا بالسكون، بل بالحركة؛ لا بالجمود، بل بالتصادم المنظّم؛ حيث يولد العدل من رحم الصراع، وتنبت الرحمة من قلب المعركة.
وقد صدق مصطفى محمود حين قال:
“إن الله يدفع الناس بعضهم ببعض لا ليُهلكهم، بل ليُهذّبهم، ليُطهّرهم بالنار، كما تُصفّى المعادن في الأتون.”
فيا قارئ هذه الكلمات، حين ترى صراعًا يدور في العالم من حولك، لا تُسارع إلى الحكم عليه بالفوضى أو العبث، فقد يكون تجليًا من تجليات هذا الدفع الرباني الذي يحفظ الأرض من الفساد.
وتذكّر: إن كل وقفة حق، وكل كلمة صدق، وكل مقاومة للباطل، هي جزء من تلك الحركة المقدسة التي بها تُصان الحياة ويُحمى الإنسان.