رحلتي إلى نزوى : حيث يمتزج عبق الماضي بنبض المسرح الحي

نزوى : سيلينا السعيد
نزوى .. ليست مجرد مدينة ، بل حالة وجدانية متكاملة. حين يُذكر اسمها ، تتجسد أمامك لوحة من التاريخ ، عبق البخور القديم ، وضحكات الأطفال في أزقة محفوفة بالذكريات. رحلتي إليها لم تكن مجرد زيارة ، بل تجربة استثنائية تنقلت فيها بين الفن والتراث ، بين الطين والنور ، في مدينة تجسّد روح التآلف الإنساني والثقافي.
زر القبول.. عندما يصبح المسرح مرآة للحياة
بدأت الرحلة بدعوة خاصة لحضور العرض المسرحي “زر القبول” ، الذي قدمته فرقة الهلال المسرحية ضمن احتفالات عيد الفطر المبارك. العنوان وحده كان كافيًا لإثارة الفضول : من منا لا يتمنى امتلاك زرّ يختصر التردد ، يمحو الرفض ، ويؤكد الوجود؟
حضرنا العرض في المركز الثقافي بنزوى ، حيث يحتل الفن مكانة بارزة في هوية المدينة. المسرحية ، التي نُفذت تحت إشراف وزارة الثقافة والرياضة والشباب ، لم تكن مجرد عرض فني ، بل انعكاسًا عميقًا للأسئلة التي تراودنا جميعًا.
نزوى.. بين عبق الماضي ونبض الحاضر
في قلب الجبال ، حيث يتعانق التراث مع الهوية ، كانت نزوى وجهتي. المدينة التي لم تكتفِ بأن تكون فخر المدن العُمانية ، بل حملت في عام 2015 لقب عاصمة الثقافة الإسلامية ، وها هي تواصل دورها كمهد للفكر والفن والحوار الحضاري.
منذ لحظة وصولي ، شعرت أن كل تفاصيل المدينة ، من أقواسها الحجرية إلى نقوش أبوابها الخضراء ، كانت تتهيأ لاستقبال المسرح كضيف عزيز. ففي نزوى ، المسرح ليس مجرد ترف ، بل ضرورة ثقافية تكتمل بها الصورة الحضارية.
اخترت الإقامة في نُزُل تراثي بسيط ، حيث وجدت نفسي بين جدران طينية دافئة تحمل ذاكرة الزمن ، تُذكّر بأن التاريخ لا يُنسى ، بل يُعاش في كل لحظة.
المسرح.. فضاء ينبض بالحياة في نزوى
المسرح في نزوى ليس مجرد مبنى ، بل روح تنبض بالحياة ، تديرها وزارة الثقافة بروح متجددة تؤمن بأن الفن ليس نخبويًا ، بل حق للجميع. وقبل دخول القاعة ، كان الممر مزينًا بلوحات ومعارض فنية تحكي قصصًا عن الفروسية والتراث ، وكأن المسرح يمتد خارج الخشبة ليشمل كل زوايا المكان.
أما فرقة الهلال المسرحية ، فقد قدمت عرضها بأسلوب كوميدي هادف ، يمزج بين الطرافة والتأمل. المسرحية طرحت تساؤلًا بسيطًا وعميقًا في آنٍ واحد : ماذا لو كان هناك زر يمكنه أن يغيّر مصيرك بكبسة واحدة؟ هل ستضغطه؟ وهل ستتحمل تبعاته؟
كان العرض مفعمًا بالحيوية ، مدعومًا بإضاءة زرقاء صنعت حالة نفسية فريدة ، حيث لم يكن هناك ظلامٌ دامس ولا نورٌ كامل ، بل منطقة رمادية تُشبه تمامًا حالات التردد التي يعيشها الإنسان.
فرح غانم.. الحضور الذي أشعل الخشبة
من بين الممثلين ، شدت إنتباهي صديقتي فرح غانم ، الممثلة السورية ذات الحضور القوي ، التي منحت كل جملة على الخشبة نبضًا حقيقيًا ، وضحكة صادقة من القلب. أداؤها العفوي ، وانسجامها مع بقية الفريق ، جعل العرض أكثر قربًا من الجمهور ، وأكثر تأثيرًا في النفوس.
ليلة تنبض بالحوار والفن
بعد العرض ، لم تكن نهاية الأمسية مجرد خروج من المسرح ، بل امتدادٌ للنقاشات والضحكات ، والتقاط الصور التي توثق لحظات الفخر بهذا العمل المبدع. في أجواء مليئة بالدفء ، شاركنا ممثلو الفرقة حوارات شيقة حول الفكرة والإخراج والأداء ، وسط تنظيم متميز يعكس إيمان وزارة الثقافة بأن المسرح قادر على تجميل الروح وزراعة الأسئلة.
واختُتمت الليلة بعشاء مع الأصدقاء ، حيث لا تنتهي الحكايات ، بل تتحول إلى ضحكاتٍ عفوية وجلسات ودّ جمعت جنسيات ومواهب متنوعة في لوحة تنبض بروح الشعب العُماني الطيب.
نزوى.. درس في القبول الإنساني
نزوى ، بعمقها التاريخي ، ومسرحها النابض بالحياة ، وفرقها المسرحية المبدعة ، أكدت لي أن القبول الحقيقي لا يأتي بزرّ ، بل بمساحات نمنحها لبعضنا ، وبمسرح نمنحه للإنسان.