خالد دغلس … حين همس الطين بسرٍّ عمره 4000 عام في الرستاق

بقلم : سيلينا السعيد
في صباحٍ صحراويٍ هادئ ، وبين جبال الرستاق الصامتة التي شهدت تعاقب الأزمنة ، انحنى خالد دغلس فوق حافة حفرةٍ أثرية ، يتأمل طبقات الأرض التي بدت وكأنها صفحات كتابٍ سري ، لم يقرأه أحد منذ آلاف السنين. لم يكن يعلم أن لحظته تلك ستكون بداية كشفٍ أثريٍ سيعيد رسم ملامح تاريخ الإنسان في هذه الأرض.
حين تنطق الأرض بلغتها القديمة
قبل سنوات ، قاد دغلس فريقًا بحثيًا ، بالتعاون مع جامعة بيزا الإيطالية ووزارة التراث والسياحة العُمانية ، إلى موقع في ولاية الرستاق ، حيث أشارت الدلائل الأولية إلى وجود مستوطنة أثرية قديمة. ولكن لم يكن أحد يتوقع أن الكشف سيمتد إلى 4000 عام من التاريخ المدفون تحت الرمال.
بضرباتٍ هادئةٍ من فرشاته ، أزاح أولى طبقات الغبار ، لتظهر تحتها جدران مشيدة بحجارةٍ منحوتة بعناية ، آثار لمباني ضخمة ، نقوشٌ باهتة تخبر عن عالمٍ اندثر ، لكنها في تلك اللحظة ، كانت تعود للحياة. “عندما اكتشفت أول جدار ، شعرت أنني أضع يدي على نبض الزمن” ، قال دغلس وهو يتأمل هندسة المباني التي كشفت عن مجتمعٍ متكامل عاش هنا منذ آلاف السنين.
مدينة ضائعة في أحضان الزمن
مع توالي الحفريات ، بدأت ملامح المستوطنة تتضح. كانت تضم منازل مشيدة بأسلوبٍ هندسيٍ متقن ، مدافن جماعية تحكي عن طقوس دفنٍ كانت سائدة في تلك الفترة ، وأدوات فخارية وزخارف نُقشت بيد الإنسان الذي عاش هنا ذات يوم. كل قطعةٍ كانت تروي حكاية ، وكل حجرٍ كان يحمل بصمة من صنعه.
“لم يكن مجرد كشف أثري ، بل كان بعثًا لحياةٍ كاملة طُمرت مع الزمن”، قال دغلس وهو يشير إلى بقايا أوانٍ فخارية لا تزال تحتفظ بنقوشها الدقيقة ، وقطع من الأختام التي قد تكون استخدمت في معاملاتٍ تجارية منذ آلاف السنين.
رسالة من الماضي إلى المستقبل
بالنسبة لدغلس ، لم يكن الاكتشاف مجرد تسجيلٍ لتاريخٍ مضى ، بل كان إعادة ربط الحاضر بجذوره القديمة. “الإنسان القديم في الرستاق لم يكن مجرد كائنٍ بدائي ، بل كان مهندسًا ، فنانًا ، وتاجرًا. فهمُنا لحياته يساعدنا على فهم أنفسنا اليوم” ، قال دغلس وهو يتابع رسم خريطة المستوطنة التي بدأت تظهر كمدينةٍ صغيرةٍ متكاملة.
لكن ما أثار دهشة الفريق الأثري كان الاكتشاف المفاجئ لبئرٍ عميقة منحوتة في الصخر ، قد تكون المصدر الرئيسي للمياه في تلك الحقبة. “المياه هي سر الحياة ، وعندما وجدنا هذا البئر ، شعرنا بأننا أمام مجتمعٍ لم يكن عابرًا، بل مستقرًا ومتجذرًا في هذه الأرض” ، أضاف دغلس ، مشيرًا إلى أن هذه الاكتشافات قد تعيد تشكيل فهمنا للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة.
ما بعد الاكتشاف: خطوة نحو حفظ الذاكرة
اليوم ، وبعد سنواتٍ من التنقيب والبحث ، لا تزال مستوطنة الرستاق الأثرية تكشف أسرارها. ويعمل دغلس وفريقه على توثيق كل تفاصيلها ، للحفاظ على هذا التراث الإنساني للأجيال القادمة.

“هذه ليست مجرد أحجار قديمة ، إنها شهود على قصص عاشها أناسٌ مثلنا ، حلموا ، عملوا ، تركوا بصمتهم ، ثم اختفوا. مهمتنا اليوم أن نصغي إليهم، أن نحفظ قصتهم ، وأن نعيد لهم صوتهم في سجلات التاريخ”، قال دغلس وهو ينظر إلى الأفق حيث تمتد الرمال ، تخفي بين حبيباتها مزيدًا من الأسرار التي تنتظر من يكتشفها.