آراء

حُريةُ التعبير حَقٌّ أُرِيدَ بِهِ باطلٌ

كتبت د. ليلى الهمامي

Advertisement

لطالما كانت حرية التعبير قضية محورية في مفاهيم الحداثة، فهي تتضمن حرية المعتقد والضمير، أي حرية الفكر بكل أشكاله ومخرجاته.

في العالم العربي، راهنت المعارضة على حرية التعبير كأداة لمواجهة أنظمة الحكم، مسلطة الضوء على تضييق السلطة السياسية على هوامش الحرية. وعلى الأرض، شهدت مختلف الدول العربية فترات من القمع المباشر للصوت الناقد، حيث طُرد مثقفون من الشباب، وطلاب، وفنانون من شعراء ومسرحيين وسينمائيين.

Advertisement

لقد عاشت المنطقة سنوات سوداء من القمع الأعمى، استهدفت كل من شكك أو نقد أو عارض، ولم تكن تلك الفترة مجرد حدث عابر، بل تجربة تبيّن طبيعة النظام العربي الرسمي، الذي أظهر عدم قدرته على إعادة إنتاج هيمنته سلمياً.

في ظل هذه السيطرة الكلية، شهدت ثمانينات القرن الماضي بعض مراحل الانفتاح، حيث واجه النظام استحقاق الخلافة وإعادة إنتاج بنيته ومؤسساته. كانت تلك المرحلة اختبارًا لقدرة المعارضة على الاستثمار في هوامش الحرية، وللنظام في استيعاب المعارضة لصالحه.

لكن النتائج كانت مخيبة: لم تنجح المعارضة في طمأنة النظام، كما أن النظام لم ينجح في تطوير أنظمته لاستيعاب الفاعلين في المعارضة. وشهدت مختلف الدول العربية خلال تلك الفترة انفتاحًا محدودًا على المعارضات من مختلف التوجهات، من اليسار الماركسي إلى اليمين الإخواني، إلا أن هذه التجربة انتهت بتجدد المواجهات واتساع أزمة الثقة بين السلطة والمعارضة.

تحولت سياسة الانفتاح إلى تغييرات سطحية في شكل السلطة دون تغيير جوهر نظام الحكم، مما دفع التشكيلات الجديدة إلى إعادة إنتاج المراوحة بين القمع والانفتاح، مع اقتطاع مساحات من سيادة الدولة سواء إقليميًا أو طائفيًا:

السودان: تقسيم شمال وجنوب بين الجيش والدعم السريع.

ليبيا: صراع بين بنغازي وطرابلس.

سوريا: تفتت السلطة بين دمشق والأكراد والدروز والعلويين.

العراق ولبنان: سيطرة الطائفية على معركة حصر السلاح.

التاريخ السياسي العربي الحديث هو تاريخ الفرص الضائعة. لم يدرك النظام أن التنازل عن الجزئيات يمكنه من التحكم في الأساسيات، ولم تعد المعارضات تقدّر أهمية الزمن في بناء حالة ديمقراطية مستدامة.

الأحداث أكدت أن المعارضات العربية ما زالت تعاني أزمة قيادة، حيث انتهى قانون التأثير والتأثر إلى محاكاة المعارضة لأساليب النظام، ما أدى إلى إنتاج أشكال استبداد خارج أطر الحكم، أحيانًا بأساليب أكثر عنفًا أو تدهورًا، كما يظهر في بعض المسرحيات المبتذلة والعروض الهابطة والفيديوهات ذات الألفاظ السوقية، وحتى التعليقات الرديئة التي تُقدَّم على أنها معارضة.

في المحصلة، انتهت مسارات الصراع السياسي إلى تشظٍ بين تشكيلات ضعيفة، أجبر ضعفها على التذيل لأحد أقطاب الصراع لضمان استمرارها، ولو في هذا الشكل الهزيل. وهناك فئة أخرى من المعارضة ارتبطت بالدوائر الأجنبية، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي العربي.

في النهاية، تظل حرية التعبير في العالم العربي حقًا نظريًا يواجه تحديات عملية كبيرة. فالتجربة التاريخية أثبتت أن القمع والانفتاح المؤقت لم يوفرا الأرضية الصلبة لنمو المعارضة أو بناء مؤسسات ديمقراطية قوية، بل أدت في كثير من الحالات إلى تشتت القوى وتراجع الثقة بين الأطراف. والمفارقة أن بعض أشكال المعارضة انتهت إلى محاكاة أساليب النظام، مما أضعف مصداقيتها وجعلها عاجزة عن تحقيق التغيير المنشود.

يبقى السؤال الملح: كيف يمكن للعالم العربي أن يضمن حق التعبير الحقيقي، ويحوّله من مجرد شعار إلى أداة حقيقية للبناء السياسي والاجتماعي؟ الإجابة تتطلب إعادة النظر في مفهوم الحرية، تعزيز القيادة الفاعلة للمعارضة، وبناء مؤسسات قادرة على استيعاب التعددية دون أن تهدر الأساسيات الوطنية.

التعبير
د. ليلى الهمامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى