حين يهمس الصوت للسماء : رحلة روحانية في دار الفنون بمسقط

بقلم: سيلينا السعيد
في ركنٍ هادئ من مسقط ، حيث يلتقي عبق التاريخ مع جمال الحاضر ، وتُحيي روحانية شهر رمضان الأرواح ، تبرز دار الفنون كواحةٍ خضراء للروح ومنارةٍ لصوتٍ لا ينبعث من الحناجر فحسب ، بل ينبثق من القلب.
في إحدى ليالي رمضان أو في هدوء المساء ، اجتمع الحضور في صمتٍ عميق ، وكأنهم كانوا على موعد مع لحظة من الدهشة الصامتة. لم يكن العرض مجرد حفل ، بل كان حالة روحية تلامس الأعماق. كان الإنشاد ليس مجرد غناء ، بل صلةٌ بين الإنسان والسماء ، حيث غنّى المنشدون لا للناس ، بل مع الناس ، لله الواحد الأحد.
الإنشاد الديني في دار الفنون ليس عرضًا تقليديًا على مسرح عادي. إنه صلاة تتحرك على نغم ، هواءٌ تضيئه القصائد ، وصدى يتردد في أعماق الحاضرين أكثر من أصداء القاعات. كلمات من ديوان ابن الفارض ، والحلاج ، والرومي ، تتنقل على أكتاف الدف والناي ، وتنساب بهدوء إلى الأرواح كما لو كانت قطراتٍ من ضياء.
جلستُ في الزاوية البعيدة ، وأغمضت عينيّ عندما قال المنشد : “يا من يرى ولا يُرى ، يا من يسمع صوت القلب إذا سكت اللسان”. شعرتُ حينها أن العالم توقف للحظة ، وأن الزمن قد غادر المكان ، وأن الحضور جميعهم ، بكل تفاوتاتهم ، كانوا متساوين أمام ضوء واحد… أمام الخالق.
لم تكن جدران دار الفنون مجرد جدران ، بل كانت قبة روحية تزينها ألوان الذهب. وكان الإنشاد بين أروقة السلالم والمقاعد ، ليس عرضًا فنيًا ، بل كان لقاءً بين الإنسان والله ، بين العابر والمطلق ، بين من يُنشد ومن يُنصت في الأعماق.
عندما انتهى النغم ، لم يصفّق الجمهور طويلاً ، بل ظلوا ساكنين ، مبتسمين ، وكأنهم لا يريدون إزعاج السلام الذي غمر المكان. خرجتُ من الدار والليل ما زال مشبعًا بالعطر والموسيقى ، وهمست في نفسي : “ما أجمل أن يُقال الله دون صخب ، وأن يُغنى له حُبًا لا طلبًا”.