آراء

جراثيم التعليم

بقلم : جوخة الشماخية

Advertisement

مرّ عليّ مقطع مرئي (فيديو) للدكتور صالح الفهدي ، بعنوان : “هل سمعتم عن جراثيم التعليم؟” أتوقّع أنّ بعضكم قد شاهده ، هذا المقطع لفت انتباهي ، مما جعلني أوسّع معرفتي عمّا ورد فيه ، اطّلعت على العديد من المنشورات التي تحدّثت عن هذا الموضوع ، أخذت أفكّر فيما وصل إليه الواقع الفعلي للتعليم السائد في نظامنا التعليمي ، سواء في سلطنة عُمان ، أو غيرها من الدول العربية ، ممّا جعلني أتساءل : هل التعليم معنا يُعاني من هذه الجراثيم؟

بداية سأنقل لكم مختصر ما اقتبسته من هذه المنشورات ، وتجربة فنلندا في التخلّص منها ، إذ يقول الأب الروحي للتعليم الفنلندي الدكتور باسي سالبرغ : “إنَّ أول خطوةٍ اتّخذتها فنلندا للنهوض بالتعليم هي التخلّص من الجراثيم ، ويبدو أنَّ فنلندا حدّدت الوصف الصحيح للأساليب التي يجب على التعليم أن يتخلَّص منها ، وهي في نظره ستة جراثيم ، كالآتي : تكثيف المواد ، كثرة الاختبارات والواجبات ، إطالة أوقات الدوام ، الدراسة المنزلية ، الدروس الخصوصية ، والمواد المعقّدة التي لا يستفيد الطالب منها. يؤكّد سالبرغ أنّ هذه الجراثيم قادرة على هدم أيّ نظام تعليمي يتكئ عليها؛ لأنها ممارسات غير تربوية ، من شأنها إرهاق المعلم والطالب معًا ، وإضعاف عملية التعليم ككل”.

Advertisement

حين تفكّرت وتأمّلت في هذه الجراثيم ، وما إن كانت موجودة في نظام التعليم في السلطنة ، وجدتها بالفعل موجودة ، وقد بدأت بالتّفشي شيئًا فشيئًا ، ولا سيما في السنوات الأخيرة ، الذي جعلني أجزم بذلك متابعتي لأبنائي ، وملاحظاتي الشخصية لما يتلقونه في المدرسة ، وكم الأشياء اليومية المطلوب منهم إنجازها ، كذلك ملاحظات الأمهات اللآتي تجمعني معهن لقاءات مباشرة وغير مباشرة ، كما لمست ذلك أيضًا من خلال آراء المعلمين والمعلمات ، التي يبثّونها هنا وهناك ، والذين من وجهة نظري هم أكثر عناصر التعليم درايةً بما يحدث في المدرسة ، وداخل الصف الدراسي ، كما استشفّيت وجود هذه الجراثيم من امتعاض الطلاب الدائم ، والإحباط الذي يسيطر عليهم ، وانخفاض دافعيتهم تجاه المدرسة ، ومن خلال ما يكتبه بعض أولياء الأمور في وسائل التواصل الاجتماعي ، والذي يوضّح مدى استيائهم ، وعدم رضاهم عن الوضع الذي وصل إليه التعليم ، الذي لم يعد مُرهقًا للطالب والمعلم فحسب ، وإنما أيضا لولي الأمر ، خاصة الأم ، الأمر الذي زاد من ثقل مسؤولياتها ، حيث أصبحت معظم الأمهات بمثابة معلماتٍ لأبنائهن في المنزل ، وأصبحت البيوت مدرسة مسائية يستعد الطالب فيها للامتحانات ، والواجبات ، والأسئلة القصيرة ، وكتابة التقارير ، التي في نهاية المطاف سيكون مصيرها سلة المهملات ، أو أن تُوضع في ملفٍ مغلق حتى نهاية العام الدراسي.

أمّا الامتحانات فقد أصبحت أمرًا معتادًا ، يواجهه المتعلم في كل يوم دراسي ، أحيانًا أكثر من امتحان خلال اليوم الواحد ، “قلق الامتحان” لا يكاد يفارقه ، من جانب آخر هو ملزم للتحضير اليومي للمواد الكثيرة التي تُقدّم له رغمًا عنه ، أغلبها لا تمّت بصلةٍ لاهتماماته وميوله واحتياجاته ، التي طالما نادى بها المربّون من التربويين وعلماء النفس ، والدليل على  ذلك قلّما يبقى لها أثرٌ في ذاكرته إلاّ ما ندر ، ناهيك عن ثقل الحقيبة المدرسية الت تقصم ظهور الطلبة ، بعضها موادٌ معقّدة ، “أطلق عليها الدكتور باسي سالبرغ المعرفة المعزولة ، ويعني بها المعلومات التفصيلية ، التي لا يتناولها إلاّ أهل التخصّص الدقيق ، هذه المواد للأسف مغرقة بالتفاصيل ، التي لا يحتاجها الطالب في دراسته ، فهي تضيع وقته وقدراته فيما لا طائل ولا فائدة من ورائه” ، ولا تراعي الفروق الفردية بين المتعلمين ، ولن تفيدهم في حياتهم.

كثرة المواد والامتحانات والمواد المعقّدة ، هي التي دفعت بعض أولياء الأمور إلى إدخال أبنائهم في دوّامة الدروس الخصوصية ، فإن سلَّم أولياء الأمور بأنّ للدروس الخصوصية إيجابيات ، فهي لا تكاد تخلو من السلبيات ، ولا سيما إن كان الذي يُقدّمها ليس تربويًا ، أو غير متخصّصٍ في المادة ، إضافةً إلى أنَّها تُشكّل عبئًا آخر على الطالب ، فبعد يومٍ دراسي طويل ، قد يمتد إلى ما يقرب من سبع ساعات ، لا يكاد الطالب يرتاح بعد عودته إلى البيت ، حتى يبدأ في مقابلة كتبه ودفاتره ودروسه الخصوصية.

المعلمون أيضًا مرهقون ، فهم مضطرون لتنفيذ ما ورد في وثائق التقويم المستمر بحذافيرها ، خاصة المعلمات ، ومع تفعيل رسائل الواتس أب تستمر الأمهات في تلقي الرسائل لتنفيذ الوارد فيها،  ولا يُكتفى بذلك ، فهناك طلبات أخرى تُرسل في المنصّات ، وطلبات تطلب من الطالب العودة إلى بعض المواقع الإلكترونية ، وغير ذلك ، حتى مواد المهارات الفردية التي يفترض أن تُركّز على الممارسة والتطبيق ، والتي كنّا ننظر إليها على أنّها بمثابة متنفّس للطالب ، تُخفّف عنه ثقل المواد التي يدرسها ، أصبح جُلّ اهتمامها هو الامتحان ، ابتعدت تمامًا عن أهدافها الحقيقية ، فما عادت تُحقّق المتعة ولا تُطبّق الممارسة.

في حقيقة الأمر ، بسبب تسرّب هذه الجراثيم أغفلت العملية التعليمية أمورًا ذات أهمية، ذهبت في مهب الريح ، فما عاد الطالب هو محور العملية التعليمية كما كنا نظن ،  حيث لا تُراعى قدراته واهتماماته ، ولا يُثار تفكيره كما ينبغي أن يكون ، ولا توجد رعاية حقيقية لمواهبه وإبداعاته ، أما المعلم فبسبب كثافة المواد وطولها ، ونصابه الكبير من الحصص والطلاب ، وكثرة الامتحانات والتصحيح ، أصبح محبطًا أيضًا ، لا يجد وقتًا لتنويع أساليب التدريس واستراتيجياته المختلفة ، التي من شأنها أن تجذب الطالب وتحبّبه وتشوّقه للحصة الدراسية.

“هذه الجراثيم تخلّصت منها فنلندا ، فتصدَّرت العالم في قائمة أفضل الأنظمة التعليمية ، وحاز طلابها المراكز المرموقة عالميًا ، وتسابقت الدول لتحظى بالاستفادة من تجربتها”.

نحن أيضًا قادرون أن نتخلَّص من هذه الجراثيم إن قرّرنا ذلك ، من خلال تقديم صياغة جديدة لفلسفة التعليم وأهدافه واستراتيجياته ، وإعادة النظر في وثائق التقويم المستمر ، بحيث نُقلّل من كم الامتحانات ، ونهتم بنوع المناهج وجودتها لا بكثرتها ، بما يتواءم مع شخصية الطالب واحتياجاته ، نأمل إلى أن يكون التعليم للحياة ، نريد تعليمًا يخرج منه الطالب وهو يمتلك مهاراتٍ تساعده على التواصل ، واستشراف المستقبل ، ومواجهة التحديات والمشكلات ، طالب قادر على أن يوجّه سلوكياته ذاتيًا ، أما التعليم من أجل الواجبات والامتحانات ، فما عاد يتناسب مع المتطلبات الحقيقية لحاضر الطالب ومستقبله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى